ضجة في مدينة العباقرة

TT

خفف الوطء.. ان لم يكن التزاما بأبي العلاء شاعر العرب الاكبر الذي يرى ـ وهو على حق علميا وشعريا ـ ان اديم الأرض من أجساد البشر فحبا بشاعر الأيرلنديين وليم بتلر ييتس الذي يعتقد برومانسية مفرطة ان الأرض سجادة أحلام بشرية مبعثرة:

بعثرت أحلامي تحت قدميك

خفف الوطء يا صاح

فوق احلامي أنت تمشي

توجد هذه الابيات على بوابة المنزل الريفي الذي عاش فيه ييتس في منطقة هوث القريبة من دبلن وهي من القرى المعلقة بين البحر والجبل لكنها أقل شموخا وقرودا وعنفا من بجاية الجزائرية مما يجعلها قادرة على ارضاء الساحليين والجبليين والشعراء والناثرين ومحبي الهدوء والزحام من دون ان ينقص من جمالها قيد قصيدة.

لقد كان أهل الأدب والفن من جميع أنحاء الكرة الأرضية على موعد هذا الاسبوع للاحتفال بمرور مائة عام على كتابة الفصل الأول من رواية جيمس جويس الذائعة الرائعة «يوليسيس» ففي السادس عشر من حزيران (يونيو) عام 1904 أنهى جويس ذلك الفصل العجيب من تلك الرواية في ذاك اليوم الأثير الى نفسه لأنه يتوافق مع أول لقاء له مع نورا حبيبة العمر وزوجة المستقبل. وقد بدأ الحفل الدولي من المنزل رقم سبعة في شارع أسكيلس وسط دبلن، وهو المنزل الذي عاش فيه جويس مع نورا التي ظنها البعض علاقة عابرة، لكن والد الكاتب الحصيف ألقى عليها نظرة واحدة مدققة ثم ألتفت لمن حوله قائلا: هذه الفتاة كالعلقة، وطالما أمسكت به فلن تتركه للأبد، وصدقت نبوءة الوالد في كنته. والايرلنديون يسمون نورا وهنا ـ من دون همزة ـ أكثر من العرب، بل وعندهم من يعتقد أنهم جميعا جاؤوا من أصول شمال أفريقية، وصاحب هذه النظرية هو المخرج بوب كوين الذي صنع لأجلها فيلما كاملا هو «الأطلسيون» الذي اشتعلت فكرته من سماع راديو الجزائر الذي كان يبث موسيقى تشبه الألحان الايرلندية وبعد بحث على الطبيعة لموسيقى المنطقتين استغرق سنوات قاده ذلك الفنان بدأ العلماء ينظرون بجدية الى احتمال قدوم الايرلنديين من شمال افريقيا. ييتس ايضا والذي لم تكن علاقته بجويس على ما يرام له قصب السبق أدبيا في هذا الاكتشاف فقد كتب في القرن التاسع عشر مسرحية جعل فيها احد ملوك ايرلندا يستعين بمرتزقة ليبيين وتلك فكرة تاريخية قد تفسر عاطفيا وفانتازيا الدعم الكبير وغير المشروط الذي كان يتلقاه الجيش الجمهوري الايرلندي من العقيد القذافي قبل توبته النصوح حين رأى شقيقه في الحفرة التكريتية.

ودعك من التاريخ ومزاجه ومزاحه الثقيل فهو لا يعني الكثير في دبلن لأنه ليس أكثر من مطية لنقل حطب الذكريات في مدينة تحب الفرح والرقص حتى يتبين الخيط الابيض من الاسود من الفجر ومن الغلائل الشفافة التي ترتديها الايرلنديات ببذخ حاتمي يبذل المتاح وغير المتاح وهذا ما يفسر النكتة الايرلندية اللئيمة عن العذراوات، التي تأتي غالبا على شكل سؤال فهناك تمثال في وسط المدينة يقال انه كان يصفر في القرن الماضي كلما مرت بقربه عذراء دبلنية لكنه توقف عن الصفير منذ زمن طويل.. لماذا يا ترى؟.

وليس الطريف في دبلن نكاتها بل علاماتها فاذا كانت بعض المدن تتخذ من الشوارع الكبرى والمعالم التاريخية علامات فارقة فإن دبلن تقدم نفسها لزائريها من خلال الحانات وأشهرها في تلك المدينة المنتعشة دوما ثلاثة مواقع لا بد ان تصطدم بها حتى وان لم تقصدها فلكل حانة تاريخ أدبي عريق ونوعية من الرواد، فالشعراء الطليعيون ـ مثلا ـ تجدهم في دهني اند نيزبتس في حين يتجه الروائيون الى حانة بيلي التي تحتفظ ببوابة المنزل الذي عاش فيه جويس وغادره ليوبولد بلوم ذات صباح في رحلته الاوديسية لاكتشاف مدينة أصابها حسب تعبير جويس الطاعون والشلل في اخلاقها ولتكتمل أضلاع المثلث الدبلني لا بد ان يمر الزائر مهما كانت مهنته بحانة موليمان في ساحة ماريان القريبة ايضا من منزل جويس الذين أقاموا لأجله هذه الضجة كلها.

ودبلن ليست مدينة حانات رغم وفرتها وكثرتها فهي مدينة عباقرة بالدرجة الاولى، وكيف لا تكون وقد عاش فيها غير جويس على فترات متفرقة في تاريخها القريب كل من برنار دشو وسويفت وبيكيت وييتس واوسكار وايلد، واخيرا شيموس هيني ومعظمهم حاول الانجليز والفرنسيون سرقتهم من الأيرلنديين، فتلك البلاد كبلاد العرب أوطاني من الأوطان الطاردة لبنيها، أما بنوها فهم كالعرب ايضا يعيشون في آخر الدنيا وبلادهم في قلوبهم وذاكرتهم كأنهم لم يغادروها والا كيف تفسر ما يقال عن ان تلك المدينة لو فنيت بقنبلة نووية فإنهم يستطيعون اعادة تعميرها كما كانت من خلال كتابات جيمس جويس وتحديدا من خلال يوليسيس ومجموعته القصصية الممتعة أهالي دبلن.

وغير انتاج العباقرة وطردهم فإن دبلن على الجانب الآخر من طرافتها الموحية من المدن القليلة التي ما تزال تقيم سباقا اسبوعيا للكلاب يراه الأيرلنديون وضيوفهم أكثر امتاعا من سباق الأحصنة.

وفي المناسبات الأدبية والفنية وغيرها فإن أهالي دبلن قوم يطلبون المتعة أنى وجدوها ولو في سباق الكلاب، وهذا ما جعل لمدينتهم نكهة خاصة مقترنة بشبق العيش في أرض حرمتها الطبيعة من الثروات الدفينة وأعطتها فوق الأرض شعبا طيبا وجمالا جذابا يرونه رغم الفقر والتعتير أفضل من أية ثروة.