الغضب والسخط

TT

حقاً ان الحلم هو سيد الأخلاق، غير ان لكل شيء حدودا ومن لا يغضب أو يغار ما هو إلا حمار.. غير أن «فقدان الأعصاب» هو الاعصار الذي لا رادع ولا موجه له، لأنه يأكل الأخضر واليابس، وينتزع جذور العقل ويرمي بها في التهلكة، وعندها يكون الدمار شاملاً، ولا ينفع بعدها «الصوت» مثلما يقولون بعد ان «يفوت الفوت».

ومن ناحيتي شخصيا فلست حليما بما فيه الكفاية، غير انني «حالم» في بعض الأحيان اكثر من اللازم، الى درجة انني احب ان اسمع اغاني عبد الحليم ـ غير العاطفية.

كما ان صبري يقترب من صبر ايوب إذا كانت الأبواب كلها امامي مغلقة، اما إذا انفتحت، فإنني أنطلق كالنحلة أو الأسد، لا أؤجل عمل أو متعة اليوم إلى الغد، وإنما «حار يا فول»، يا ويل ويا سواد ليل من يقف في طريقي، فأقل ما افعل: ان اقفز فوق ظهره «قفزة الانجليز» ـ وهي لعبة رياضية كنا نلعبها أيام الطفولة، واعتقد انها انقرضت، أو اصبحت من «التراث».

وكل الكلام الذي تقدم يقودني للحديث عن رجل، له بعض المواهب العملية والتجريبية، وهو يعتقد انه لو أكمل دراسته في علم النفس فلا شك انه سوف يصبح «بروفسوراً»، طبعاً هو يعتقد ذلك في نفسه، مع انني اشك في اعتقاده المبالغ فيه.

وهو كثيراً ما حدثني عن نظرياته التي لا تستند الى أساس علمي، غير انه قبل عدة أيام حدثني عن موقف له مع ابنته التي تدرس في الصفوف المتوسطة، ولا بأس من ان أشرككم في سماع تجربته غير«المثيرة» تلك.

يقول: كانت ابنتي جالسة بجانبي تؤدي واجباتها المدرسية، وفجأة توقفت وسألتني عن الفرق بين الغضب والسخط.. واخذت افكر اكثر من دقيقة وانا صامت من دون ان اجيبها، ثم هداني تفكيري، واتجهت الى التلفون «وضربت» رقماً عشوائياً، وجعلت التلفون على «الاسبيكر» لكي تسمع ابنتي الكلام معي، فرد عليّ رجل، فقلت له: السلام عليكم، هل سالم هنا؟ فقال: وعليكم السلام، هذا ليس تلفون سالم، وعليك ان تتأكد من الأرقام مرّة أخرى لو سمحت، ثم اغلق السماعة.. وأعدت الاتصال اتوماتيكيا بنفس الرقم، وعندما ردّ عليّ الرجل قلت له: السلام عليكم هل سالم هنا؟ فرد عليّ قائلا: لا سلام ولا كلام يا أخي. قلت لك الرقم غلط وخلّي عندك دم ثم رزع السماعة في وجهي، فقلت لابنتي هذا الذي سمعتيه هو «الغضب»، والآن سأريك ما هو «السخط»، وأعدت الاتصال بنفس الرقم قائلا: السلام عليكم هل سالم هنا؟ وأتاني صوت الرجل ملجلجاً إلى درجة انني خفت عليه من ان يحصل له شيء، وهو يقول لي: لا ابوك لا ابو سالم ابن «ستة وستين كلب».. واغلقت السماعة بهدوء والتفت الى ابنتي لأسألها: هل عرفت بعد هذا الدرس العملي ما هو الفرق بين الغضب والسخط؟ وتعلقت حبيبتي في عنقي، وطبعت قبلة على خدي وهي تقول: الآن فهمت يا احلى بابا في الدنيا.

ولا شك انها عندما كانت متعلقة برقبة والدها، كان ذلك المسكين ـ حقل التجارب ـ جالساً أو واقفاً (يغلي).