البرمجة اللغوية العصبية أو الهندسة النفسية

TT

البرمجة اللغوية العصبية أو الهندسة النفسية مصدرها ثلاث كلمات باللغة الإنكليزية هي: Neuro-languistic-programming وتختصر بثلاث حروف هي: NLP. وقد قدم هذا المصطلح عالمان في اللغويات هما: (جون غراندر) وعالم الرياضيات (ريتشارد باندلر) في عام 1975 في كتاب بعنوان «بنية التخيل» (Structure of Magic). وهذا العلم في الواقع ليس جديداً تماماً فقد اشتغل عليه الفلاسفة والصوفية والمربون ومدارس علم النفس منذ فترة طويلة.

وخلاصته هي فهم تشريح العقل الإنساني وكيف يتصرف الإنسان ومن أين ينبع السلوك؟ وصولاً إلى شيء خطير يزعمه الكثيرون هو «التحكم» بالسلوك الإنساني. واعتبر عالم النفس الأمريكي سكينر من مدرسة علم النفس السلوكي في كتابه «تكنولوجيا السلوك الإنساني» (Beyond Freedom and Dignity) أن «العقل لا يزيد عن خرافة وأن الكرامة وهم»! وهو يذكر بفكرة عالم الاجتماع العراقي «الوردي» عن العقل الإنساني أنه عضو يحقق وظيفة البقاء ولا يبحث عن المنطق والعدالة والحق كما يردد ذلك المتحاورون في الفضائيات. ويقول الوردي إن العقل جعل لابن آدم مثل ناب الأفعى وقرن الثور ودرع السلحفاة كي تمكن الحيوانات من متابعة البقاء. وكل الحديث عن الحقيقة النهائية والعدل المطلق والعقلانية لا تزيد عن خرافة؟

وعالم النفس سكينر يريد الوصول بهذا إلى نوع من العلم نتحكم من خلاله بالسلوك الإنساني كما نتحكم في مسار قمر صناعي نطلقه إلى الفضاء. وبالطبع فإن ادعاءً كبيراً كهذا يدخلنا إلى شيء خطير في تحويل الإنسان إلى إنسان آلي (روبوت)، ويصبح سلوك الإنسان لا يزيد عن إفراز هورموني يمكن التحكم فيه.

ويرى عالم النفس بريان تريسي في كتابه «أسس علم نفس الناجح» أن الإنسان يشبه الكمبيوتر مع الفارق الهائل في التعقيد، ولكنه مثل أي جهاز يحتاج إلى كتاب «تعليمات التشغيل» (Manual Instruction) كما هو الحال عندما نشتري «فاكسا» فنتحكم به ونعرف أسراره عن طريق كتاب التشغيل.

وتقول الدراسة أن 3% فقط هم الناجحون في الحياة. ويرفع تريسي الرقم إلى 5% ويدعي الفريق الذي قام بالمقارنة بعد عشرين عاماً من الدراسة أن حصيلة النجاح الذي حققته مجموعة 3% كانت تفوق عمل 97%. والمشكلة في الإنسان أنه يأتي إلى الدنيا لا يعلم شيئاً وعنده السمع والبصر والفؤاد أي الاستعداد للتشكل، وهي الفكرة التي طرحها ديفيد هيوم في كتابه «عن الطبيعة البشرية» أن الدماغ الإنساني يشبه لوحة شمع للتشكل. ولكن ايمانويل كانت قال بشيء اسمه «المقولات العقلية» (Categorical Imperative) أي أن الدماغ الإنساني مركب على نحو مسبق لنقل الحواس الخام إلى قالب مدركات ثم أفكار. ولولا هذا لكانت رؤية البقرة للعالم ورؤيتنا واحدة، ولكن حصيلة هذه الرؤية مختلفة جذريا بين الإنسان والحيوان ومصدر الإرسال واحد.

ويعتبر الدماغ الإنساني هو مركز التعقيد الفعلي لأنه المكان التشريحي والفيزيولوجي الذي تجري فيه العمليات العصبية بدءا من التصورات وتحليل المعلومات واستيعابها وخزنها بالذاكرة وانتهاءً بالنطق والاتصال. وبعد الوصول إلى فك كامل الشفرة الوراثية اصطدم العلماء بحقيقة أن أكثر «الجينات» تعمل لمصلحة الدماغ وعلى نحو تبادلي برقم فلكي مرعب. ونحن نعرف اليوم أن خلق الإنسان يتم من خلال حوالي 140 ألف أمر «جيني». ولكن الرقم التبادلي هو الذي يصيبنا بالدوار. فمثلاً عرف أن الجينات أي الأوامر الوراثية المسؤولة عن تنظيم الضغط الدموي ليست جيناً (Gen) واحداً مفرداً بل حوالي 200 جين في ضفيرة متبادلة التأثير.

وحتى نقترب من التعقيد المخيف في أدغال غابة المخ فعلينا ملاحظة لوحة الفيديو الداخلي، فإذا كانت لوحة الفيديو فيها مائة نقطة فالدماغ فيه ما لا يقل عن مائة مليار خلية (عصبية). ومعنى هذا أن عمل الجسم يقوم على شبكات (لا نهائية) إذا أخذنا في عين الاعتبار أن كل نورون عصبي هو كوكب دري في سماء الدماغ، وهي ليست مجرات تتباعد عن بعضها كما في النظام الفلكي، بل خلايا عصبية تتصل فيما بين بعضها البعض بمحاور على نحو مذهل. وكل خلية عصبية عندها ما لا يقل عن ألف ارتباط وبعض خلايا المخيخ مثل خلايا بوركنج عندها 200 ألف ارتباط.

وحتى الآن نحن على السطح التشريحي ولم ندخل الدغل المخي تماماً، ومما كشف عنه أن الوعي هو شيء قشري سطحي مقابل اللاوعي أو العقل الباطن الذي يتحكم فينا بآليات غير مفهومة ولا تخضع للمنطق. ومما عرف أن الوعي واللاوعي أو العقل الباطن لا يشتغلان سوية وهما يشبهان المتغيرات في معادلة رياضية واحدة وهي عند الرياضيين معادلة غير قابلة للحل. وهذا يعني أن الإنسان يشكل معادلة غير قابلة للحل عملياً.

وتذهب مدرسة «اريكسون ملتون» في محاولة لاكتشاف علاقة اللغة بالعقل الباطن. فاللغة العليا تكلم الوعي المباشر أما اللغة الرمزية فإنها تتسلل إلى العقل الباطن فتكون أبلغ في التأثير. ومنه نفهم معنى ما قاله علماء البلاغة أن المجاز أفضل من الحقيقة أحياناً، وأن الكناية أبلغ في الإفصاح، وأن الاستعارة أقرب من التصريح. وهدف «قصص ألف ليلة وليلة» كانت محاولة لمداواة مريض نفسي محطم مغرم بالقتل هو الملك شهريار من خلال القصة التي تنفذ إلى اللاوعي «مباشرة» فتعالجه على نحو «غير مباشر».

والهندسة النفسية تحاول فك هذا اللغز الإنساني لفهم جدليته المحيرة. وقديما حاول الإمام الغزالي فهم مراتب الوجود فقال بأن الحقيقة تمر من خلال مستويات تضعف فيها المرة بعد المرة كما يمر الضوء عبر أوساط شفافة مختلفة فيتعرض للانكسار في كل وسط يتخلله. فبين الحقيقة الخارجية وكتابتها مراحل من «المفلترة المشوشة» قبل أن تصل إلى مرحلة النطق اللغوي وتختم باللغة المكتوبة في النهاية.

ومن هنا فإن طبيعة الاتصالات بين «الكتابة» أو «النطق» أو «المقابلة الشخصية» تدخل الخلل إلى صحة المعلومات على نحو مأساوي. بسبب أن «الكلمة» ناشفة بريئة ولكن «النطق» يحمل «لحن القول». والرؤية تحمل قسمات الوجه وما تخفي السريرة «ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول». فهنا تدخل على الخط لغة جديدة هي «اللغة السيميائية».

وقام فريق بحساب مقدار وصول المعلومة أي «المردود الاقتصادي» الفعلي للحقيقة المشوهة من خلال الكلمة «المكتوبة» أو «النطق» أو «المقابلة المباشرة» فكان على الترتيب 7% ثم 38% ثم 55% ويعني هذا أن المعلومة مع كل المحاولات لا تنفرغ عصبيا بشكل كامل، وربما سيحدث هذا للمستقبل إن استطعنا أن نفعل هذا كهربيا بتفريغ كامل شحنة الأفكار والتصورات من دماغ إلى دماغ أو من الكمبيوتر إلى الدماغ وبالعكس. مع ملاحظة أن ما يستقبله الدماغ هو قسم ضئيل من الحقيقة لأنه يتغذى بالحواس الثلاث الأساسية ويرمز لها VAKمن أصل ستة حواس وهي مختصر للرؤية والسمع والحركة (Visual Auditory Kenthetic). وهي محدودة بشق بسيط من كون حافل بالموجات.

والخلاصة التي نصل إليها ثلاثة أمور: إن كل من يدعي فك أسرار الإنسان نهائيا هو إما مغفل أو مدع. وأن الإنسان يشبه المحيط يتم اكتشاف بعض الجزر فيه من حين لآخر تنفع في الرسو ومتابعة اكتشاف هذا المحيط الذي لا يكف عن الاتساع. وثالثا أن من يدعي فهم كامل الإنسان من اجل السيطرة على تصرفاته واهم. حيث تتكسر كل نظرية عند عتبة قدمي الإنسان. وهذا بكلمة أخرى يعني أن الإنسان مجهول ومعلوم بنفس الوقت في زاوية تزداد اتساعا ومع كل جواب تقفز من جديد مجموعة أسئلة. والمهم فهناك من يدعي هندسة نفسية يمكن بواسطتها التحكم في الإنسان؟ ونحن نعرف من تاريخ العلم أن علم نفس «الفرينولوجيا» تحمس له العلماء كثيرا ولم يكن يتطلب أكثر من تمرير اليد على الجمجمة وتعرجاتها للحكم على ملكات الإنسان وطبيعة كيميائه ومزاجه. ثم ظهر أنها لا تزيد عن دجل.