الأردن وفلسطين... المخاوف القديمة والحقائق الجديدة

TT

أثناء سطوع نجم منظمة التحرير، أدار الأردن معركة سياسية شديدة التعقيد، لمعالجة وضعه في الضفة الغربية بعد احتلالها كاملة في العام 1967. كان الوضع الناشئ عن تلك الحرب ينطوي على ازدواجية لا يمكن احتمالها والتعايش معها، جوهرها، ارض وشعب ـ وفق القانون الدولي ـ يتبعان للأردن، ووفق الواقع، يواليان منظمة التحرير، ولقد نجم عن هذه الازدواجية وضع مرهق للطرفين، على نحو فرض صراعا موازيا للصراع البديهي مع الاحتلال، مما فتح ثغرة تكفي لتهريب أي إنجاز. وبرغم اتساع نفوذ منظمة التحرير، وحصولها على إجماع عربي ودولي على أنها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني إلا أن الأردن لم يهضم ـ آنذاك ـ فكرة التخلي عن الضفة لأسباب عديدة، لعل أكثرها عمقا، طبيعة وتكوين القاعدة البشرية للمملكة الهاشمية، حيث الفلسطينيون ليسوا مجرد شعب آخر، بل إن الاندماج الشامل مع الأردنيين كان هو السمة المميزة للمملكة. غير أن المغفور له، جلالة الحسين، وبما عرف عنه من تقدير دقيق للتطورات وقدرة فائقة على الإقدام نحو خيارات جديدة، اتخذ قراراً مدوياً، بفك الارتباط مع الضفة. كانت خطوة الملك آنذاك نوعا من كسر القديم، لبناء وضع جديد قوامه «لنترك أمر العلاقة النهائية بين الجانبين إلى حين قيام الدولة الفلسطينية» أي أن العلاقة المستقبلية، لا بد ان تكون بين طرفين متكافئين من حيث الوضع القانوني، وبداهة أن تكون وليدة اختيار حر من قبل الشعبين.

منذ تلك الخطوة، اتخذ الأردن وضع الداعم النوعي لمبدأ قيام دولة فلسطينية، وأمام الاستعصاء الأمريكي والإسرائيلي، وفر للفلسطينيين مخرجا معقولا للمشاركة في عملية السلام، وتأسست على مدى سنوات طويلة، قواعد جديدة للعلاقة الأردنية الفلسطينية وانصرف الأردن لبناء ذاته بأقل قدر من الاحتكاك السلبي مع الفلسطينيين دون أن يتوقف عن إظهار رغبته الحقيقية برؤية دولة فلسطينية تملك مواصفات وإمكانيات دولة شقيقة تربطها بالأردن علاقات طبيعية.

موضوعيا، من المفترض أن تكون المخاوف المتبادلة قد انتهت، فلا الأردني يفكر بالعودة كالسابق إلى الضفة الغربية، كبديل عن حكم الفلسطينيين أنفسهم بأنفسهم في إطار دولة مستقلة، ولا الفلسطينيون مستعدون لقبول فكرة الوطن البديل، لأنها تحمل خطرين وجوديين في وقت واحد، الأول يمس الأشقاء الأردنيين، وحقهم البديهي في بلدهم ومجتمعهم ودولتهم «الناجحة». والثاني: يمس روح وجوهر الكفاح الوطني الفلسطيني، متمثلا بحق تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة على التراب الوطني الفلسطيني. وبوسعنا القول إن هذه المخاوف القديمة، لم تعد واقعية ليس بفعل رغبة الطرفين وحسب، وإنما بفعل الحقائق السياسية الجديدة، التي ترسخت بالتراكم، وأهمها الالتزام الإقليمي والدولي الجماعي بضرورة قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.

والآن.. وفي الوقت الذي طرق فيه الاسرائيليون باب مصر، للمساعدة على ما يسمى بملء الفراغ الناجم عن انسحابهم من غزة، يجري الحديث بقوة، ولكن بصيغة تساؤل حول دور الأردن في الضفة، وبصرف النظر عن الفوارق الموضوعية والتفصيلية بين الحالتين، إلا أن مبررات ومساحات التدخل المصري في غزة، قادت منطقيا إلى التفكير بالدور الأردني في الضفة، وفق مقاييس مشتركة، لعل أكثرها تأثيرا رغبة القوى الدولية الفاعلة برؤية شروط نجاح عملية لمحاولات الحل في الضفة، حيث المكان الأخطر والأكثر تعقيدا. وفي حالة كهذه، سوف نجد من يستعيد المخاوف القديمة، عند كلا الجانبين، كما سنسمع العديد من السيناريوهات الخيالية لشكل ومحتوى الدور الأردني المرشح للعمل بالضفة، منها ما يصمم من أجل التشكيك وفتح معارك جانبية، ومنها ما يبتكره الخيال الشعبي وفق الوعي البسيط للتداعيات السياسية، غير أن ملامسة أمينة وموضوعية للواقع، مع قراءة مستنيرة للتطورات تحت الأسقف المتاحة تمكنان من بلوغ الحقائق التالية:

أولا: سجلت وقائع ما يربو على نصف قرن من عمر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، استحالة الحل، دون تعاون راسخ وتكامل بين الأطراف جميعا، وبوسعنا هنا استذكار المحاولة الأخيرة، القائمة على فكرة الحل أحادي الجانب لنجد أنها فكرة مستحيلة وفق مفهوم فرض الحل دون شراكة، غير أن الحل ممكن وفق مفهوم الشراكة الموضوعية، بحيث يعرف كل طرف حدود دوره، ليس كما يرغب هو، وإنما وفق ما يتطلبه الحل، واستقراره فيما بعد. وانطلاقا من هذه القاعدة، يظهر دور الأردن، كمساعد وليس كبديل، وتفاديا لإساءة الفهم، فلا مناص من حوار معمق مع الأشقاء في الأردن حول هذا الأمر بالذات، فلم يعد يكفي الحديث بالبديهيات العامة، ولا بد من التفاهم على الكثير من التفاصيل.

ثانيا: لقد كون الفلسطينيون أنفسهم، كطرف سياسي مستقل ودفعوا لقاء ذلك أثمانا باهظة، ولقد اقترن محتوى الدور الفلسطيني، في الشأن الفلسطيني، برسالة سياسية من النوع الذي يستحيل الرجوع عنه، وهي بالأساس «الدولة المستقلة» وإذا كان هناك في إسرائيل من لا يريد رؤية هذه الدولة على قيد الحياة وان لم يستطع فسيعمل على أن لا تكون دولة حقيقية، فان الفلسطينيين يزدادون تصميما على تحقيق هذه الدولة، دون تنازل عن أي من مقوماتها ومحتواها، وهذه ليست مجرد رسالة فلسطينية وإنما أصبحت ضرورة إقليمية ودولية، خاصة بعد أن سجلت كتعهد اميركي مقترن بموافقة إسرائيلية ولو على مضض. إن الأردن يدرك هذه الحقيقة بعمق، ولا يتردد في إعلانها كأساس راسخ من أسس سياسته الفلسطينية.

ثالثا: بعد كل التحولات الجذرية التي نشأت في العالم والتي أثرت على طبيعة العلاقات بين الدول فان تغييرا نوعيا في كيفية معالجة شؤون العلاقة الفلسطينية الأردنية لا بد ان يحدث، وعبر تفاهم عميق بين الطرفين، وبفهم صاف للمصالح المشتركة وكيفية حمايتها وتطويرها. لقد آن الأوان، لأن تتحرر العلاقة الأردنية الفلسطينية من الشعارات غير الواقعية، والمخاوف المدمرة، ولعله من المفترض أن يكون الجانبان قد نضجا بما فيه الكفاية، وقد توصلا إلى حقيقة سياسية بديهية، وهي أن محصلة النفوذ الأردني ومعه الفلسطيني ووراءه العربي كله، «بالكاد» يشكل ثقلا دائم التأثير في معادلة القوى المقررة بشأن مصيرنا، وحين يكون الأمر كذلك، فكيف سيكون الحال، لو ظل كل طرف يخاف الآخر، ويتسابق معه أو ينافسه أو.. الخ. في هذه الحالة سيخسر الطرفان، وسيتلاشى النفوذ العربي من المعادلة، وهذا ما يجب العمل بجد لتفاديه أو لبلوغ عكسه تماما. دعونا نراقب مجريات الأمور في غزة، ودعونا نعد العدة لمواجهة تحديات السياسة التعويضية الإسرائيلية في الضفة، وهي سياسة اخطر بكثير مما نتصور، وبغير تفاهم تفصيلي بين الأطراف العربية، وأصدقائهم، فان خطرا جديا يتهددنا جميعا ولن يواجه هذا الخطر بإجراءات أحادية وإنما بسياسة جماعية صادقة.