تعـنيف الواقـع أكثر مما هو عنيف!

TT

من منظور الصراحة والتشخيص الصادق، لا شك في أن الواقع العربي قد شهد ضربا مبرحا سواء بفعل الذات نفسها أو بأذى القوى الغيرية لها. والضرب كما هو معروف من أنواع العنف الظاهر والذي بالإمكان إثباته بالبصر كحاسة فيزيولوجية ملموسة، على خلاف التعنيف بالكلمة أو حتى بالصمت.

إذن الواقع العربي له كفايته وزيادة من العنف، بل صار بالمفهوم السوسيولوجي حقلا يتلقى العنف وينتجه ويعيد إنتاجه.

وطبيا، عادة ما يأمر الطبيب مريضه المعنف وصاحب الكدمات المنتشرة في وجهه وأكثر أعضاء جسده حساسية، بالراحة والتداوي حتى يمتثل للشفاء، ويتخلص من أمارات العنف وأثار الضرب المبرح.

ولكن وصفة الطبيب هذه، يحرم منها العراق الذي يسلط على واقعه المعنف، عنفا يزيد في إمعان الوجع وفي اشتداد الأزمة دون أن يؤدي ذلك الاشتداد إلى فرج.

هناك نوع من التعنت المتضخم ورفضا للواقع العراقي الجديد يتجاوز المنطق، ويطل على حالات متناسلة من العبث والفوضى المدمرة، لا الفوضى الخلاقة حسب تعبير كوندليزا رايس.

ومن الظاهر أنه هناك عمليات سطو قد لحقت بالمقاومة العراقية الهادفة بمعنى أن مجال المقاومة تجاوز في أجزاء كثيرة منه المقاومة الوطنية وأصبح ملعبا اختلط فيه الحابل بالنابل وتكاثرت فيه الأيادي والنوايا والمصالح والمؤامرات وكأنها خيمة يختفي داخلها كل من لديه ثأر، قديما كان أو جديدا، مستغلين وضع الانفلات الشامل للقتل والاغتيالات، خاصة وأن الدولة كمؤسسة لها صلاحيات احتكار العنف وممارسة الضغط الاجتماعي، هي غير موجودة حسب الشروط المتعارف عليها.

فكيف يمكن أن نقرأ سلسلة الاغتيالات التي طالت مسؤولي حكومة رئيس الوزراء العراقي إياد علاوي ؟

إن أول ما نقرأه في هذه الاغتيالات هي الرسالة الرمزية ذات الشفرة السهلة الفك. فالاغتيال ينم عن رفض كامل لهذه الحكومة ورغبة في تبديدها، على اعتبار أنها جزء من وضع الاحتلال والطريقة التي تشكلت بها والصلاحيات الجزئية التي أنيطت بعهدتها، تمثل في حد ذاتها أدلة سياسية علنية على صفة الاحتلال. والمعلوم أن الأمريكيين كانوا يرفضون صورة المحتل وبذلوا جهدا إعلاميا ودعائيا وديمغوجيا للإقناع بالجوهر التحريري لعملية غزوهم للعراق. ورغم صحة هذه الأطروحات وغيرها، بالإضافة إلى أطنان الاحتقان التي زرعتها فضيحة أبو غريب في الشعب العراقي والفئات التي تصدرت للرد فإن الطريقة الواقعية تبقى ـ مع الأسف ـ أفضل الحلول المتاحة للعراقيين جميعا.

فهذا الواقع المعنف بطبيعته والذي يعاني من تخمة في العنف يحتاج إلى نظرة واقعية وإلى عقلانية في معالجة الوضع العراقي الراهن، ذلك أن اللهث وراء الحلول الكاملة يعد وهما وتقهقرا نحو المناطق السابقة لمستوى الصفر !

فلا معنى للمطالبة بحلول كاملة من طرف فارغا من كل إمكانيات القوة المادية التي تدير الصراع الحالي في العراق. لذلك فإن هدف إخراج أقوى دولة في العالم من بلاد أنهكتها الحروب والمؤامرات وأثقلتها الديون والأحزان، لن يتم بالاغتيالات وبالهجمات الانتحارية. فكما تغير مفهوم الاستعمار وأصبحنا نتحدث اليوم عن الاستعمار المقنع، فإن مقاومة الاستعمار من المهم أن لا تكتفي بالمفهوم القديم الطبيعي بل لا بد من حقن هذا المفهوم بمقاومة مقنعة، تستند إلى الحكمة والتريث وبرودة الأعصاب.

إذ يحدث في هذا الزمن وخاصة في ظل ظروفنا المتقهقرة أن نسترجع الوطن بغليان الدم في العروق وأيضا بالدم البارد وهو طبعا ليس بالاختيار وإنما هو أقصى ما يتيحه الواقع العراقي المعنف.

إن الواقعية الإيجابية والتي تتغذى من الصبر وليس من الاستسلام هي السلاح الوحيد بيد العراقيين لذلك منح الحكومة العراقية الجديدة الحياة بدل الاغتيال يمثل خطوة هامة وإنصاتا جيدا لصوت الواقعية الإيجابية. يجب أن تتمتع هذه الحكومة بحقها في الحياة وفي إشباع توقعات الشعب العراقي بشكل مرحلي وتدريجي. فالواقع العراقي لا يحتمل إشعال البراكين وتفجير ما تبقى من البنية التحتية العراقية، بقدر ما يدعو إلى دعم هذه الحكومة في الداخل والخارج كي تسحب البساط تدريجيا من تحت أقدام المحتل.

وقد أثبتت تجربة العنف التي لا تمت بأي صلة إلى المقاومة الوطنية ذات القضية العادلة، بأن الاغتيالات التي يذهب ضحيتها العراقيين وكفاءات العراق الحية، تصب لصالح الوجود الأمريكي وتمنح ذرائع تمطيط وجوده ومزيد استدعاء جنوده، بل وحتى استبدال جيشه في بعض المناطق بالمارينز.

ويمكننا أن نستشف ذلك بالإضافة إلى المنطق من تصريحات وزير الخارجية الأمريكية كولن باول الذي صرح بصعوبة حماية حكومة بأكملها في حين أن شركة «بلاك ووتر» مكرسة كفاءتها في الحراسة لتأمين الحماية لبول بريمر وهو ما يؤكد أن المسؤولين العراقيين الجدد كأهداف سهلة للموت لا يتصدرون الاهتمام الأول، لأن في إخفاق هذه الحكومة أو على الأقل في تعثرها المسترسل جواز بقاء أطول للأمريكيين في العراق. إن الواقعية وحدها تجعل صاحب القضية يحدد أهدافه والمستفدين من أفعاله. والواقعية الإيجابية بمفردها أيضا القادرة على معالجة الواقع العراقي المعنف بالضرب المبرح.

* كاتبة تونسية

[email protected]