التحالف الفلسطيني ـ السوري: خطوة ثانية نحو الأمام

TT

تشكل المساعي المبذولة لبناء علاقة فلسطينية ـ سورية جديدة، خطوة بارزة باتجاه بناء وضع عربي يقف في وجه المشروع الأميركي الذي يريد السيطرة على المنطقة انطلاقا من العراق المحتل. لقد أعلنت الولايات المتحدة قبل الاحتلال وبعده، أنها تريد من وراء السيطرة على العراق، فرض السيطرة على الدول المحيطة به. وبدأت منذ الأيام الأولى للاحتلال، ضغوطا علنية لتغيير السياسات أو لتغيير الأوضاع، على كل من ايران وسوريا والسلطة الفلسطينية. ايران تواجه ضغوطا عنوانها السلاح النووي، وسوريا تواجه ضغوطا عنوانها قانون محاسبة سوريا، والسلطة الفلسطينية تواجه ضغوطا عنوانها خطة شارون بما تشتمل عليه من انسحاب من قطاع غزة، وتكريس مستوطنات الضفة الغربية، ومواصلة بناء الجدار الفاصل الذي يسلب نصف أراضي الضفة الغربية.

ولكن هذه الخطة الأميركية تواجه عمليا صدودا واسعا ومتنوعا من دول المنطقة وشعوبها. فهناك صد ايراني على الطريقة الايرانية، وهناك صد سعودي على الطريقة السعودية، وهناك شبه تحالف موضوعي بين المقاومة العراقية والانتفاضة الفلسطينية والصمود السوري في وجه الضغوط الأميركية.

وتقف مصر في هذا الصراع في موقف فريد، فهي وثيقة التحالف مع الولايات المتحدة الأميركية، وهي في الوقت نفسه ترفض منهج الولايات المتحدة للسيطرة على المنطقة من خلال ما يسمى مشروع الإصلاح أو مشروع الشرق الأوسط الكبير، وهي من جهة ثالثة تراقب الوضع الفلسطيني بشكل عام وتراقبه بشكل خاص عند حدودها في قطاع غزة، وهي من جهة رابعة تؤمن بضرورة استمرار الحركة السياسية حتى لو كانت تملك إزاءها شكوكا كثيرة، لأنها ترى في الجمود السياسي مشكلة أكبر من الشكوك، فتبدو من خلال ذلك وكأنها متعاونة مع إسرائيل، مع أن هدفها الأساسي هو التعاون مع الفلسطينيين ومساعدتهم.

ويقف الأردن في هذا الصراع في موقف أكثر فرادة من الموقف المصري، فهو متحالف مع الولايات المتحدة من دون أن يملك هامشا موازيا للهامش المصري في معارضة مطالبها. وهو يراقب خطة شارون للحل الأحادي الجانب، ويرى أن هذا الحل سينتقل بعد فترة إلى الضفة الغربية، وستطلب منه إسرائيل آنذاك، إن لم تكن قد طلبت منذ الآن، دورا أمنيا على غرار الدور الأمني المصري، وهو يخشى أن يقبل ذلك كما يخشى بالمقدار نفسه أن يرفض. يريد حماية نفسه مما يسمى «البديل الأردني» الذي يؤمن به شارون حلا للموضوع الفلسطيني، ويريد طمأنة الفلسطينيين (في الضفة الغربية وداخل الأردن) عن أن تعامله مع الوضع لا يضعه قريبا من إسرائيل ولا بعيدا عن الفلسطينيين وضرورة التعاون معهم ومساعدتهم.

ويراقب الفلسطينيون كل الذي يجري، ويدركون بعمق أن الهدف منه هو منع قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، وفرض واقع جغرافي مقطع الأوصال يجعل من أي صورة للكيان الفلسطيني صورة هشة مجزأة (كانتونات أو معازل)، أو أن يكون الكيان الفلسطيني غير قادر على استيعاب سكانه وتشغيلهم، فيقودهم ذلك إلى الهجرة الإجبارية، وهي التي يسميها اليمين الإسرائيلي (الترانسفير الطوعي)، وكل ذلك مما لا يمكن القبول به.

إنه وضع معقد بالنسبة إلى الجميع. وفي خضم هذا الوضع المعقد يبادر الفلسطينيون للحركة باتجاهات ثلاثة:

ـ اتجاه الوحدة الفلسطينية الداخلية، التي عبر عنها بوضوح لقاء أحمد قريع رئيس الوزراء مع جميع الفصائل الفدائية في غزة (13 يونيو/حزيران)، حيث تم الاتفاق على مشاركة الجميع في تحمل المسؤولية الأمنية والسياسية، إذا ما أخلت إسرائيل القطاع من الجيش والمستوطنين.

ـ اتجاه التعاون مع مصر، بعد أن رفضت إسرائيل التفاوض المباشر مع الفلسطينيين، حيث يجري العمل الآن لبلورة خطة فلسطينية ـ مصرية، لترجمتها على أرض الواقع في حال انسحاب إسرائيل من غزة. وهي تجربة ربما تتكرر مع الأردن، حيث يشكل العامل الفلسطيني في الحالتين عاملا لا يمكن القفز عنه.

ـ اتجاه التعاون مع سوريا، وتجديد وصل ما انقطع معها، وهو ما يمكن اعتباره التحرك الفلسطيني الأبرز والأكثر دلالة سياسية.

لقد عبر التحرك الفلسطيني باتجاه سوريا عن نفسه بزيارتين قام بهما وزير الثقافة الفلسطيني يحيى يخلف. قام بالزيارة الأولى منفردا، ورافقه في الزيارة الثانية رمزي خوري وزير شؤون الرئاسة المقرب من الرئيس ياسر عرفات.

تميزت الزيارة الأولى (قبل القمة العربية التي لم تنعقد) بأن جاء يحيى يخلف إلى دمشق حاملا رسالة من عرفات، والتقى بسبب ذلك مع الرئيس بشار الأسد، حيث سمع الوزير الفلسطيني كلاما رئاسيا سوريا ايجابيا للغاية، فتح الباب أمام التفكير الفلسطيني بتطوير وتجديد العلاقة مع دمشق. وكان جوهر الموقف السوري الذي عبر عنه الرئيس بشار الاسد، هو الرفض السوري للطلب الأميركي والإسرائيلي بإبعاد رئيس عربي منتخب، والتقدير السوري لصمود الرئيس عرفات عند الثوابت الفلسطينية في مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، ومواصلة ذلك الصمود طوال السنوات الأربع الماضية، وبخاصة عبر حالة الحصار والأسر التي يعيشها عرفات، وعبر تضحيات الانتفاضة الفلسطينية.

وتميزت الزيارة الثانية التي تمت قبل أيام (15 يونيو/ حزيران) بأن الوفد الفلسطيني جاء إلى دمشق وهو يحمل معه ورقة عمل مكتوبة تم بحثها مع وزير الخارجية فاروق الشرع، وهي من النوع الذي يستدعي بحثا قياديا سوريا بشأنها ولقاءات تالية لإبلاغ الجواب السوري.

ورقة العمل الفلسطينية المكتوبة لها مواصفات خاصة تزيد من أهميتها، فهي ليست رسالة موجهة من القيادة الفلسطينية إلى القيادة السورية فقط، بل هي في الأصل ورقة فلسطينية داخلية، تشرح وتحلل وتفسر كيف ينظر الفلسطينيون إلى سوريا ودورها، وماذا سيطلبون منها، وما هي الأشكال التنظيمية التي يرونها لتنظيم العلاقة معها. وقد تم إعداد هذه الورقة للتداول الفلسطيني الداخلي، وتم إقرارها فيما بينهم، وتم حملها بعد ذلك إلى المسؤولين السوريين ليطلعوا على فحوى التفكير الفلسطيني، ومن أجل ان يعرف السوريون أن ما ينقله الوفد هو قناعة فلسطينية وليس مجرد اقتراح أو رسالة أو بنود للتداول. تتضمن الورقة كما أعلن على لسان مسؤولين فلسطينيين التقوا في دمشق مع الوفد الزائر، شرحا للفهم الفلسطيني للعلاقات التاريخية بين سوريا وفلسطين، وشرحا للتضحيات السورية من أجل القضية الفلسطينية، واعترافا بضرورة عودة العلاقات الثنائية إلى أصلها وجذورها، واقتراحا عمليا بتشكيل لجنة ثنائية تنعقد في اجتماعات دورية لرسم خطوط التعاون والتنسيق، ولحل اي إشكال قد يحصل بين الطرفين. وتتطلع الرسالة إلى جهد سوري مع العرب لتسديد التزاماتهم المالية للسلطة الفلسطينية، وإلى جهد سوري مع لبنان لتحسين الوضع المعيشي للفلسطينيين فيه، وإلى جهد سوري يسهم في تعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية.

وقد تم إبلاغ الوفد الزائر من قبل وزير الخارجية السوري، بأن الورقة بأكملها، وبكل ما فيها من مطالب، سترفع إلى الرئيس بشار الأسد لتتم دراستها قياديا، ثم لنقلها إلى حيز التنفيذ.

ومن المتوقع الآن أن تبادر القيادة الفلسطينية إلى إرسال لجنة فلسطينية لبدء العمل والمتابعة، كما من المحتمل أن يصل إلى دمشق وفد فتحاوي للاتصال مع الفصائل الفدائية الموجودة في دمشق، لتعزيز قناعة سائدة بأن استئناف الحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني هو من أفضل المداخل لتحسين العلاقات الفلسطينية ـ السورية.

لقد خرج الوفد الفلسطيني من حواراته في دمشق بانطباع ايجابي، وبرغبة واضحة بضرورة استمرار التواصل، ومن أجل هدفين متلازمين: بناء تحالف سوري ـ فلسطيني متين، واعتبار هذا التحالف رافعة عربية أساسية من أجل الصمود في وجه المخطط الأميركي، الذي يواجه بدءا من العراق، مصاعب متلاحقة، ولكنه لا يزال يرفض التراجع أو إيقاف حملة الضغط على دول المنطقة.