الأسئلة الصعبة في ملف السيادة بالعراق

TT

بعد مخاض عسير ومساومات بالغة التعقيد انتهت إدارة الاحتلال الأمريكي إلى تشكيل الحكومة العراقية الموعودة، ثم حل مجلس الحكم الانتقالي وتسريح العدد الأكبر من أعضائه، هذا المجلس الذي خضع في تشكيله ومسارات عمله لخيار المحاصصة الطائفية والعرقية بما أفقده معاني الانتماء الوطني الجامع، ويروج الطرف الأمريكي والقوى المرتبطة بالأوضاع الجديدة التي فرضها احتلال العراق بأن تشكيل الحكومة الجديدة ليس إلا خطوة صحيحة في اتجاه نقل السيادة كاملة من أيدي "قوات التحالف" إلى الحكومة العراقية الوليدة.

وفي محاولة لامتصاص حالة الممانعة التي أبدتها القوى الدولية الرافضة للحرب، وعلى رأس ذلك فرنسا وروسيا، اضطر الأمريكان إلى إدخال أربعة تعديلات متتالية على مسودة القرار التي كانت معروضة على مجلس الامن الدولي يوم الثامن من الشهر الجاري، وهذا التعديل استجاب دون شك إلى قدر كبير من مطالب الأطراف الدولية المناهضة للحرب، كما كبح بعض الشيء من حرية حركة الاحتلال الأمريكي ولكن من دون أن يغل يده بالكامل، إذ يظل الرهان الأكبر بالنسبة للقوة الأمريكية يعتمد على محاولة ربح أكثر ما يمكن من الوقت لصنع معطيات جديدة على الأرض، بقوة السلاح، بحيث لا يمكن تداركها أو إلغاؤها لاحقا بسهولة، ثم "منطقة الفراغ التشريعي"، التي أبقاها القرار الدولي الجديد 1546.

بما أن مسألة السيادة ليست مفهوما أكاديميا مجردا، بل لها تعبيراتها وشخوصها المحددة والمجسدة واقعا، فإن ثمة جملة من الشروط والمحددات التي يمكن أن تقاس على ضوئها هذه السيادة، وما إذا كانت موجودة أو منعدمة، وما إذا كانت منقوصة أو كاملة، وحتى ننزل حديثنا هذا على واقع الحال في العراق، فإننا نقول إن هناك ملفات أساسية وكبرى يمكن أن تختبر على ضوئها صدقية الوعد الأمريكي بإعادة السيادة للعراقيين، هذه الملفات نختصرها على النحو التالي:

أولا: يبلغ عدد القوات الأمريكية المتمركزة في أرض العراق زهاء 115 ألف عسكري، إلى جانب 24 ألف جندي من دول مختلفة منضوية تحت دائرة التحالف، من بينها 8 آلاف جندي بريطاني من المنتظر أن يضاف إليهم 4 آلاف آخرين خلال الأسابيع القادمة. علما أن سلطة الاحتلال الأمريكي وعلى نحو ما تؤكد قيادتها العسكرية إلى حد كتابة هذه السطور، تؤكد بأنها ستحافظ على نفس العدد تقريا بعد الانسحاب يوم 30 يونيو، وقد سبق لمارك جروسمان مساعد وزير الخارجية للشؤون السياسية، أن صرح خلال جلسة استماع في الكونجرس الأمريكي قائلا بأن القيادة العسكرية الأمريكية ستظل محتفظة بحقها، وبقدراتها الكافية التي تمكنها من تحديد الدور المناسب لقواتها العسكرية في العراق، ورغم أن القرار الدولي الجديد 1546 وبعد تجاذبات وضغوطات شديدة تعرض لها الطرف الأمريكي اضطر إلى الاعتراف بحق الحكومة العراقية في الاشراف على القوات العراقية، إلا أنه أبقى على حق القوات الأمريكية في المبادرة العسكرية تحت عنوان القيام بعمليات "هجومية حساسة"، دون أن تنال الحكومة العراقية شيئا من التقرير في الأمر أو ممارسة حق الفيتو، مكتفيا القرار بمنحها حق التشاور وليس أكثر، وهذا معناه أن كل ما ستفعله القوات الأمريكية، وفي أحسن الحالات، مجرد التواري عن الأنظار العامة، والتمركز في الثكنات العسكرية بدل الاحتكاك بالسكان مع ما يستتبع ذلك من كلفة على أرواح الوحدات الأمريكية، ثم إثارة المشاعر العامة لغالبية العراقيين الرافضين للاحتلال، وهذ الأمر يسمى بلغة العسكريين إعادة الانتشار وليس الانسحاب.

وبغض النظر عن العناوين والواجهات التي ستتخفى وراءها القوات الأمريكية وما إذا كان ذلك بغلاف التحالف الدولي، أو بغلاف الأمم المتحدة، أو ما سماه القرار الدولي الجديد بالقوات المتعددة الجنسية، والتي هي عند التمحيص الدقيق ليست إلا قوات أنجلو ـ أمريكية، فإنها ستظل شديدة التأثير على مجريات الأمور على الأرض، وقوة كابحة وضابطة لعمل الحكومة، هذا دون أن نتحدث عن المستشارين الأمريكان الذين تم زرعهم في مختلف الوزارات العراقية مثل الفقاقيع.

ثانيا، يبلغ عدد قوات الأمن ما يربو على 210 آلاف عنصر من بينها 87 ألفا من قوات الشرطة و28 ألفا من وحدات الأمن الدفاعية و74 ألفا من قوات حماية أمنية، و2500 ألف من وحدات الجيش المكلفة المسائل الأمنية الداخلية، وقد سبق لوزير الخارجية الأمريكي كولون باول أن صرح يوم الأحد 16 مايو بأن هذه القوات يجب أن تبقى تحت سلطة الولايات المتحدة الأمريكية، لأنه في أوقات الصراعات والحروب ثمة ضرورة بأن تكون هناك وحدة في القيادة على حد قوله، ويقصد بذلك وحدة قيادة بيد واشنطن، وفي محاولة لامتصاص المطلب الفرنسي بحق الحكومة العراقية الكامل في الاشراف على الملف الأمني، فقد نص القرار الدولي 1546 على "إنشاء ترتيبات شراكة أمنية بين حكومة العراق ذات السيادة والقوة المتعددة الجنسية لكفالة تحقيق التنسيق بينهما في شأن المسائل الأمنية"، وبما أن مسألة التنسيق والتشاور هذه ستحددها موازين القوى على الأرض، فإن الطرف الأمريكي بذراعه العسكري الضارب سيظل الموجه الأكبر لطبيعة ووتيرة هذا التشاور، بما يجعله قادرا على تغليف قراراته الانفرادية بغلاف "التنسيق والتشاور البناء بين الطرفين".

إذا ما علمنا أن بعدا مكينا من أبعاد السيادة في الدولة الحديثة يتمثل في انفرادها بامتلاك أجهزة القوة والحق في استخدامها، أي ما يعبر عنه بلغة عالم الاجتماع السياسي بالاستخدام المشروع للقوة، فلا نعلم ما الذي بقي من مقومات هذه السيادة في ظل عجز هذه الدولة عن التحكم في عصبها الحي ممثلا في جهازي الجيش والأمن.

ثالثا: منذ سقوط نظام صدام حسين بلغت مداخيل العراق من النفط 18 بليون دولار ذهبت مباشرة إلى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، علما أن إدارة الاحتلال كانت قد دفعت نصف هذه المداخيل في عقود طويلة الأمد لشركات إعادة الاعمار، أي ان النذر الأكبر من هذه الأموال امتصته الشركات الأمريكية وما بقي من ذلك توزع بين دواليب الدولة وأجهزتها، والقليل منها ذهب إلى أفواه العراقيين الفاغرة، ورغم أن القرار الدولي الجديد أعطى الحكومة العراقية حق الإشراف على الصندوق العراقي للتنمية بعد "رحيل قوات التحالف"، إلا أنه ما زال أمام الاحتلال الأمريكي ما يكفي من الوقت لتثبيت مجمل السياسات التي فرضها بما يضمن هيمنة مستقبلية "ناعمة" على منابع النفط في العراق، وفي مقدمة ذلك العقود الآجلة والعاجلة التي نالت القسط الأوفر منها الشركات النفطية الأمريكية العملاقة.

وإذا ما قمنا هنا بتركيب المشهد العراقي في مختلف منحنياته وتعرجاته، يتبين لنا أن سلطة الاحتلال ستظل تمارس دورا ثقيلا وفاعلا في الشأن العراقي سواء كان ذلك بصورة خفية أو معلنة، إذ لا يتصور أحد وجود أكبر انتشار عسكري أمريكي في العالم لن يكون له انعكاس على التوازنات الجغرافية السياسية للعراق وما حوله، ولا ننسى هنا أن ما منحته سلطات الاحتلال بيمينها من سيادة عراقية ستنتزع الكثير منها بشمالها عبر إبرام رزمة من الاتفاقات السياسية والعسكرية التي تتيح لها التحكم في الوضع العراقي، بحيث تتخذ الحكومة العراقية الجديدة قرارات "سيادية" تتنازل بموجبها عن مساحات كبيرة من سيادتها بما من شأنه أن يحول الاحتلال إلى نوع من الانتداب المطلوب بقرار "سيادي" عراقي.

* باحث في الفكر السياسي والعلاقات الدولية

جامعة وستمنستر لندن