سيناريوهات دولة كردية: مسلسل الخداع .. والخداع المضاد

TT

بنهاية فترة الاحتلال التي استمرت 14 شهرا، من المرجح أن يواجه العراق، مرة أخرى، تلك المشاكل التي ظل يواجهها منذ أن وضع على الخريطة عام 1921. وأهم هذه المشاكل مشكلة الأكراد الذين يحب قادتهم الاعيب الخداع والخداع المضاد، على أمل الحصول على أكبر نصيب من الفوائد في زمن تسود فيه الفوضى وعدم اليقين. وقد أوحى كل من مسعود بارزاني، وجلال طالباني، أهم قائدين كرديين عراقيين، بأنهما يمكن أن «يسلكا طريقا مختلفا» إذا لم يستجب لمطالبهما حول وجود فيتو كردي حول بعض المسائل الوطنية الحيوية في الدستور الجديد.

وربما تكون هذه حيلة من الحيل، وربما لا تكون. ولكن التهديد بالانفصال الكردي قوبل حتى الآن باستجابتين مختلفتين من النخب العراقية القائدة من غير الأكراد. فبعض الزعماء العرب يشعرون بالرعب من احتمال أن تعود المشكلة الكردية لتهيمن من جديد على الأجندة الوطنية. وهم مستعدون أن يقدموا كل ما يستطيعون للاستجابة للمطالب الكردية في إطار نظام متعدد الإثنيات. ولكن آخرين يعبرون عن ضيقهم بالمطالب الكردية. قال أحد القادة العرب مشترطا عدم ذكر هويته:

«ظل الأكراد سببا لكل محننا منذ البداية. دخلنا عدة حروب بسببهم. بل إننا قبلنا حتى الخضوع للطغاة لأننا كنا نعتقد أنهم سيمنعونهم من الانفصال. ولكن ما دام العراق قد تحرر حاليا، فلماذا نعود إلى السياسات الفاشلة التي ألفناها في الماضي، فقط لنظل الأكراد بعلمنا؟».

ويعتقد بعض العراقيين، وبعض صناع السياسة في واشنطن أن انفصال الأكراد هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لهذه الأمة التي نالت حريتها مؤخرا. وبالطبع فإن البارزاني والطالباني، بوصفهما من أكثر الساسة العراقيين خبرة حاليا، يحاولان الاستفادة من هذا الوضع. ولكن نظرة فاحصة لحقيقة الأوضاع القائمة، توضح بمنتهى الجلاء أن احتمالات قيام دولة كردية مستقلة في شمال العراق، تكاد تكون معدومة.

وهناك أسباب عديدة لهذا الوضع.

فالأكراد العراقيون لا يشكلون كيانا اثنيا موحدا ناهيكم عن تشكيلهم «أمة» بالمعنى المعروف للمفهوم.

ويتحدث الأكراد العراقيون لغتين مختلفتين، مع أنهما مفهومتان لبعضهما البعض، وتنقسم كل لغة الى عدد من اللهجات بتقاليد ثقافية وأدبية مميزة. كما ينقسم الأكراد العراقيون الى ست جماعات دينية بما فيها طوائف سنية وشيعية مختلفة، وزرادشتية اضافة الى عقائد هرطقية.

ان بعض الناس الذين يعتبرون «أكرادا» عموما هم في الواقع عيلاميون ولوريون من الناحية الاثنية بلغاتهم وثقافاتهم وتواريخهم المميزة. وفي الوقت نفسه فان المنطقة التي يهيمن فيها الأكراد هي أيضا موطن لبعض الجماعات غير الكردية بمن فيهم العرب والتركمان والآشوريون والأرمن.

ومما يزيد من تعقيد الأمور ان ما لا يقل عن ثلث الأكراد العراقيين يعيشون خارج المنطقة التي قد تصبح يوما ما دولة كردية مستقلة. (هناك ما يزيد على مليون كردي في محافظة بغداد على سبيل المثال).

ان اقامة دولة كردية منفصلة في العراق يمكن أن تثير عملية تطهير عرقي، وتغييرات سكانية، وعمليات نزوح يمكن أن تدخل المنطقة بأسرها في سنوات من النزاع ، فيما لا تكون دولة كردية صغيرة في شمال شرق العراق قضية ممكنة وقابلة للحياة، لانها ستكون محاصرة ولن تتمتع بموارد طبيعية.

وتقع معظم حقول النفط الرئيسية في العراق خارج المنطقة التي نحن بصددها. كما أن موارد المنطقة المائية يمكن ان تكون عرضة للاستغلال من جانب تركيا وايران حيث تنبع الأنهار الرئيسية.

ولكن ماذا عن كردستان الكبرى التي تضم كل من يسمون أنفسهم أكرادا ؟ فهناك، على أية حال، ملايين الناس ممن يشعرون بأنهم أكراد على الرغم من التنوع الموضوعي للغاتهم وتواريخهم وأساليب حياتهم.

مثل هذه الدولة، التي تشمل الاكراد في سوريا وتركيا وايران وارمنيا واذربيجان بالاضافة الى العراق سيصل عدد سكانها الى 30 مليون نسمة في مساحة في حجم فرنسا. وتشكيل كردستان العظمى يدفع المرء الى ضرورة اعادة تنظيم جزء كبير من الشرق الاوسط واعادة رسم حدود 6 دول، بما في ذلك اكبر دولتين في المنطقة ايران وتركيا. (تركيا هددت بإرسال قوات الى كردستان اذا ما بدأ اكراد العراق في التعبير عن ميول توسعية في اتجاه كركوك)، وحتى عندئذ ستصبح كردستان دولة ضعيفة ليست لها شواطئ وذات موارد طبيعية محدودة، ومحاطة بقوى، إن لم تكن معادية، فهي لن تقدم على مساعدتها ، فيما ستواجه كردستان العظمى العديد من المشاكل الداخلية ايضا.

أضف الى ذلك فهناك مشكلة تقرير أي من الابجديات الاربع المستخدمة في كتابة اللغات الكردية المختلفة التي يجب تبنيها باعتبارها اللغة القومية. وهنا تبرز عدة مشاكل، بينها: اذا ما سيطرت وجهة نظر الاغلبية فإن الابجدية المختارة هي التركية لان نصف الاكراد تقريبا يعيشون في تركيا، وفي الوقت ذاته فإن غالبية النصوص التاريخية والادبية والسياسية والدينية وغيرها من النصوص الهامة مكتوبة بالابجدية الفارسية، وهي نسخة موسعة من العربية. وهناك مشكلة عاصمة الدولة الجديدة وأين ستقع؟

وهنا، واذا ما كان التاريخ والاساطير، وبدرجة ما عدد السكان هما المقياس فإن مدينتي سننداج ومهاباد مرشحتان للعاصمة، الا ان المدينة ذات اكبر عدد من السكان الاكراد هي اسطنبول العاصمة الثقافية والتجارية التركية التي يعيش فيها 1.6 مليون كردي.

وفي كردستان الكبرى ستأتي النخبة الثقافية من ايران ونخبة رجال الاعمال من تركيا. فهل سيسمحون لاكراد العراق بتقديم «النخبة السياسية؟ وهو امر صعب. الامر المؤكد، على أي حال، هو انه في كردستان الكبرى يمكن للبارزاني والطالباني، وهما الان شخصيتان سياسيتان كبيرتان في بحيرة عراقية صغيرة يمكن ان يتحولا الى سمكة صغيرة في بحيرة اكبر.

يعني ذلك في مجمله ان البارزاني والطالباني ليست لديهما الرغبة، سواء كانت شخصية او غير ذلك، في اثارة ما يؤدي الى تفكيك العراق لينتهوا الى مجرد اطراف محلية فقط في الدولة الكردية الكبرى. كما ليست لدى الغالبية الكردية العراقية أية رغبة في ترك العراق خصوصا ان هناك فرصة حقيقية الآن لبناء دولة يمكن ان يتمتع الاكراد فيها بحكم ذاتي كامل بالاضافة الى موقع قيادي في تركيبة السلطة على مستوى العراق.

لدى اكراد العراق (3.5 مليون نسمة) الذين عاشوا تحت ظل حكم ذاتي بفضل الحماية التي ظلت الولايات المتحدة توفرها لهم منذ عام 1991 تجارب متباينة. فالمنطقة مقسمة الى نصفين، نصف يقوده البارزاني والآخر يقوده الطالباني، مما يدل على صعوبة تحقيق ولو وحدة محدودة في هذا الجزء من العراق، دعك عن وحدة في المنطقة الشاسعة التي يعيش فيها الاكراد. وقد تميزت مواقف الدويلتين الكرديتين بتحول وتغيير التحالفات، اذ تحالف احدهما مع صدام حسين ضد الآخر. كما ان الدويلتين دخلتا في عدة معارك، بما في ذلك حرب كاملة اوقفت بفضل الضغوط الاميركية. فالوحدة الكردية، شأنها شأن القومية العربية ووعودها بالوحدة ، قضية الحديث حولها اسهل من تطبيقها حتى اذا كان ذلك على نطاق ضيق.

يجب ان يوقف الطالباني والبارزاني المراوغة حول «الخروج». ولكن يجب في نفس الوقت ان يدرك عراقيون آخرون العراق بدون اكراده سيكون دويلة تواجه دول جوار خطرة.

ما يمكن قوله هنا هو ان الإبقاء على وحدة العراق يصب في مصلحة الاكراد والعرب على حد سواء، كما يصب ايضا في مصلحة امن المنطقة بكاملها.

في بداية القرن الواحد والعشرين لم يكن بوسع الاكراد السعي لتحقيق تطلعاتهم من خلال القومية الرومانسية في عراق القرن التاسع عشر التي تسببت في الكثير من الحروب والمآسي في مختلف مناطق العالم.

ينبغي ان يتحدث الاكراد اينما قطنوا لغاتهم الخاصة بهم وتطوير ثفافاتهم وممارسة معتقداتهم وإدارة شؤونهم بالطريقة التي يرونها مناسبة. فهذه حقوق اساسية للأفراد، اذ يعتبر العراق الذي تحرر حديثا هو المكان الانسب الذي يمكن ان يمارس فيه الأكراد هذه الحقوق، على الاقل في الوقت الراهن.

بمعنى آخر، هذا ليس هو الوقت الذي يفكر فيه الاكراد في الانفصال عن العراق، كما لا ينبغي على بقية العراقيين حرمان اخوتهم الاكراد من حقوقهم المشروعة.