الإصلاح

TT

يتسابق في الدعوة الى «الاصلاح» عرب كثيرون جميعهم من دون شك ذوو نوايا حسنة ولكن اكثرهم ذوو مقدرات محدودة وتأثير غير مؤكد. وبعض الذين يدعون الى الاصلاح عند الغير هم احوج به قبل سواهم. والاصلاح ليس حرفة ولا مهنة ولا خطة خمسية. انه مناخ. والمناخ رغبة وارادة عامة ومتفق عليها ولو بغير اجماع. ولا يمكن عقد مؤتمر للاصلاح قبل عقد مؤتمر للحد من البطالة المرعبة، او الحد من الأمية القاتلة. وماذا يهم ان يعقد مؤتمر للاصلاح على شاطئ الاسكندرية، اذا كان كل العالم العربي قد اخفق في تطيير برقية استنكار لذبح الرهائن وعرض عملية الذبح على التلفزيون لمن يرغب في تمتيع النفس بمشهد السوائل. الأمة تمر في مناخ مرضي ومليء بالاوبئة: حارس ليلي يتحول الى منظَّر فكري. ولذلك يوصي بالفكر الوحيد الذي يعرفه: اطلاق النار على كل ما يتحرك، وحز عنق كل من يتململ، ثم تعليب رأسه في كيس من البلاستيك.

الاصلاح ليس فكرة ولا مشروعاً ولا محاضرات. انه ارادة وشجاعة. وهو فرض وليس رغبة اميركية او أمنية اوروبية. والاصلاح لا يأتي من قاعة المحاضرات او منبرها، بل من الصفوف الخلفية. وهو يبدأ عندما نقر جميعاً بأن العيب ليس فقط في خروج الفتاة الاردنية على قواعد الاخلاق، ولا هو فقط في الاعتداء على طفل قاصر، بل العيب الاكبر هو ان يكون زنا الرجل بطولة وزنا المرأة اعدام. العيب في ان نقبل على انفسنا كل هذا الخمول وكل هذا الكسل وكل هذه البطالة. والعيب الاكبر هو ان نبذَّر الاطفال مثل الارانب ونحن لا نملك ارسال واحد منهم الى المدرسة. ولا نملك ان نوفّر الشبع لاحد منهم. ولا الملبس الكافي. والعيب ان يكون هناك ملايين (وليس آلاف) الرجال يمشون في شوارع هذه الامة وهم لا يملكون سوى الثوب الذي عليهم. ولا يملكون ان يخلعوه لغسله. ولا يملكون نعلاً ينتعلونه

يبدأ الاصلاح عندما نتفق على مكامن الخلل واسباب التخلف وعاهات المجتمع والجبن الذي يحول من دون ان تستنكر امة بكاملها ذبح كوري جنوبي على ارض العراق، كأنما وحشية الآخر تبرر همجيتنا والقتل بالقاذفات يعزز ثقافة سكاكين المطابخ، او كأنما ثقافة القاذفات تبرر ثقافة السكاكين.

الاصلاح رسالة تؤديها وسائل التثقيف والاعلام والقيادة الفكرية. وهذه الوسائل قابعة اما في جبنها او في غيّها، تهلل وتمتدح وهي جالسة على الاعناق المقطوعة والعقول الغائبة. وهذه الوسائل تسممنا كل يوم ببطء ولا تذكر كلمة واحدة عن النمو او التقدم او العلم او الاقتصاد. لقد اقامت من حولنا حفلة تحشيش يتقدمها «المحللون السياسيون» الذين تبدو اطراف السكاكين من طرف اكمامهم. والعالم العربي غارق في محششة الكذب والافتراء وتعظيم الجهل. وبين جميع هؤلاء المنقذين ليس هناك من يدعو الى الالفة او الى الوحدة او الى التقدم. هناك فقط مزعقون يعرضون للهمجية على انها الحل ووسيلة الانتصار والبقاء. لم يقدم لنا احد منذ عام الى اليوم جمعية خيرية في العراق او مجموعة تعنى بالاحسان وتعمل بالرأفة. وهناك منها الكثير لم نر برنامجاً عن العراقية زها حديد، اعظم مهندسة في العالم اليوم (اللهم، الا اذا كانت «العربية» قد فعلت ذلك). لا يعرض علينا خبر ايجابي واحد عن هذه الامة من اولها الى آخرها. لا نرى او نسمع احداً سوى المزعقين والمحرضين. ولا نرى بطلاً الا من ذوي الاصوات التي تشبه القبضات والسواطير. ولا نرى برنامجاً يستضيف مفكراً خفيض الصوت عالي الفكر. ولا نشاهد انساناً اقام مدرسة او ميتماً. لا نرى سوى قتال ومتقاتلين وصرَّاخين وزعاقين ومعبأين ومحرضين ومرضى بشهوة الدماء ومشاهد الاكياس البلاستيكية. ولا بدّ ان وراء هذا الهوس المرضي بالتصفيق للصراخ وعشق البلاستيك، فكراً غير عربي. لا بدّ ان هناك من درس جيداً حكاية «بافلوف». واهم ما فيها اقناع بافلوف بأنه هو صاحب الفكرة في ما يفعل. ليس معبأ ولا محرّضاً ولا من يحركه في الغرف السرية.