أكثر من رسالة في نضال امرأة ..!

TT

السيدة (أوانج سا سو كايا) البورمية البالغة من العمر 56 سنة وشكلها النحيف يذكر بالمهاتما غاندي وترتسم على وجهها علامات الخشوع والهدوء، خرجت من الاعتقال الإجباري في بيتها بعد 19 شهرا وأجرت معها مجلة در شبيجل الألمانية مقابلة وسألتها: من أين لك كل هذه القوة في مواجهة حكومة العساكر؟ قالت أنا مؤمنة. قالوا لها لقد عانيت كثيرا وسمعنا أن ولديك الاثنين حرما من زيارتك كما أن زوجك أصيب بالسرطان ومات ولم تتمكني من مشاهدته. قالت نعم هذا صحيح ولكن أين معاناتي من معاناة الشعب البورمي على يد العساكر؟ ثم أنني اتصل بأفراد حزبي الناشطين في (رانجون) وسوف نستمر في نضالنا حتى نحقق الديمقراطية والحرية لشعبنا.

وفي تقديري فإن هذه السيدة التي نالت جائزة نوبل للسلام ستصبح أول رئيسة جمهورية في أول حكومة ديمقراطية في بورما. وما يلفت النظر في قصة هذه المرأة المكافحة أنها امرأة تقدمت في السن ونحيفة البنية يصرعها غلام صغير، ولكن الذي أعطاها كل هذه القوة الروحية إيمانها بالأسلوب السلامي في التغيير. وجماعة العسكر يتمنون ويطلبون منها ومن أفراد حزبها أن يلجأوا للسلاح كي يدخلوا الحقل الذي يحسنون فيه حسم الصراع، ولكن السيدة اوانج كايا تعرف هذه اللعبة جيدا ولذلك حيدت العنف. وهذه النقطة صعبة علينا في المجتمع العربي أن نؤمن بالسلم أسلوبا للتغيير أي المقاومة المدنية. فنظن أن هذا تعطيل للجهاد أو أن العمل السلمي جبان مع أن الذي يمارسه من أشجع الشجعان، لأن الذي يُضرَب يَضرِب فهذه غريزة حيوانية تفعلها الكلاب والقطط، ولكن الشيء الإنساني الجديد هو التخلي عن القوة وعدم رد الأذى بالأذى. ويصعب على الناس استيعاب هذا التكتيك مع أنه اسلوب براجماتي نفعي واقتصادي للغاية، فضلاً أنه أخلاقي ويحافظ على طرفي الصراع. فآلية الصراع بالعنف لا تحل المشاكل بل تزيدها تعقيدا واللاعنف ينهي الصراع. وحتى من يدرب على القوة في اليابان بطريقة الآيكيدو يقولون إن هدفهم من تدريب الناس ليس إثارة الصراع بل إيقافه والاندماج مع نسق الكون. والصراع المادي حلقة شيطانية تزداد مع كل دورة عنفا وضراوة. ومع نهاية كل جولة تستعد النفوس للدخول في جولة جديدة.

وهذه الآلية النفسية من الأسلوب السلمي في تغيير النفوس سلكها الأنبياء. ويقول علماء النفس لا تجادل مطلقا لأن الجدل يورث العداوة بل اعتمد نموذج تبادل الآراء. والعواطف متبادلة فمن منح الحب للناس ناله. ومن انسجم مع الطبيعة فتحت له أسرارها.

وتمنيت أن تبقى الانتفاضة سلمية تمارس المقاومة المدنية. ولكن هناك من يرى أن القتل هو سيد الحلول ويسمون ذلك جهادا وما هو من الجهاد. والقتال غير الجهاد. وأعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر. أو كما يقول تشومسكي الحق في مقابل القوة.

والشباب متحمسون بطبعهم فلا تنضج الحلول عندهم في العادة. وفي ثورة إيران رأينا نجاحاً مذهلاً لاعتبارين جوهريين: التحام قيادة ناضجة عركتها السنون مع شباب مضحى اعتمد المقاومة السلمية اللاعنفية في وجه شاه فاسد أتى به إلى السلطة والد (شفارتزكوبف) الذي كان رئيس شرطة نيوجيرسي يومها، فقام بانقلاب على مصدق بكلفة خمسة ملايين دولار؟ ورؤية الابن والأب مفيدة ولكنهما خدما مصالح بلادهما في الوقت الذي أضرونا.

ومشكلة العمل المسلح أن صاحبه يرى فيه سيد الأحكام، وعندما يحل مشكلته مع عدوه بالسيف فسوف يتحول إلى الحكم بينه وبين أخيه في المستقبل. وحسناً أن لم يصل الإسلاميون إلى سدة الحكم في الجزائر التي تتحول في العادة إلى كرسي إعدام.

ومن وصل بالسيف إلى الحكم سيفتك بكل معارضة. وتاريخ الثورات شاهد. والعراق احتفل قبل الصدمة الأميركية في ربيع 2003م بالذكرى الأربعين للانقلاب الأربعين وكان يمكن أن يستمر أربعين أخرى ويقتل أربعة ملايين عراقي في أمة فقدت قدرة تقرير المصير.

والشيوعيون نالهم من ستالين ما لا يخطر على قلب بشر ففي أوكرانيا لوحدها أرسل ستالين مليون إنسان إلى الموت. وكابول ضربت على يد المجاهدين أكثر من الروس بلاغاً للناس فهل يهلك إلا القوم الظالمون. وبن لادن كان راهنا على دفن الأميركان كما دفن الروس من قبلهم فاشترت أميركا رؤساء القبائل بثمن بخس وكانوا من الزاهدين. في نكتة كبيرة لا يضحك لها أحد. واليوم تحولت أفغانستان من جديد من يد إلى يد كما تنقل البضائع بالبريد المسجل.

وجرت العادة أن من أخذ السيف بالسيف يؤخذ. هكذا جاء في الإنجيل. والشباب القوميون الذين ركبوا ظهور الدبابات وقاموا بالانقلابات العسكرية ضحوا برفاقهم الذين خاضوا معهم تجربة الانقلاب ورؤساء أحزابهم.. ويداك أوكتا وفوك نفخ. وجماعة التنظيم الخاص ورطوا الإخوان المسلمين في صدام مع السلطة كانوا بغنى عنه. وعندما قتلوا النقراشي قتل حسن البنا بثمن باهظ. . وهناك كتب في التجارب المرة أكثر من عشرة مجلدات. وكتب القومي العريق (منيف الرزاز) كتابا يقطر ألما بعنوان (التجربة المرة) عن غدر الرفاق. وفي عدن قتل الرفاق بعضهم بعضا بما يذكر بأيادي سبأ فمزقناهم كل ممزق وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون. ومن ارتهن للقوة تحول إلى عبد لها.

والسيدة البورمية (أوانج سا سو كايا) الآن، وبواسطة هذا الأسلوب من الكفاح كسبت احترام العالم ونالت جائزة نوبل للسلام ، وحتى أن خصومها يحترمونها ويبقى هامشا للعمل السياسي لكل أطراف الصراع. في حين أن طريقة القتل والقتل المضاد لا تترك هامشا للمناورة. فأما أنا أو أنت. وهو يعني أن الإرادتين تدمر أحداهما الأخرى ولا تعترف بوجود الأخرى. فهذه هي أفكار ثلاثة من قصة السيدة البورمية كايا التي تكافح وهي امرأة أعتى من الرجال العسكريين وبواسطة المقاومة المدنية. وينمو عملها كل يوم وأصبحت مشهورة في كل العالم كنموذج للكفاح السلمي.

أما نساؤنا فيجب أن يحشرن في علبة كبريت. مع أن القرآن يتكلم عن امرأة فرعون وهي تناضل. ويتفضل على نبيه بأن يبدل نساءه بنساء سائحات. وكانت الذرية الطيبة لامرأة عمران مريم بعد أن ظنت أن الأنثى قد تعجز عن خدمة المبدأ.

وقصة العنف واللاعنف جاءت من مصدر آخر من الثقافة البوذية في قصة رواها (الدالاي لاما) الزعيم الروحي لبوذيي التيبت.

قال (الدالاي لاما): كان عنده صديق من الفلاسفة والنساك البوذيين الذي اعتقله الصينيون عند استعمار التيبت. وأرسلوه إلى معسكرات الاعتقال (الغولاك) الصينية الشهيرة بأعمالها الشاقة وتعذيبها (مثل سيبيريا في الاتحاد السوفياتي). بعد عشرين عاما أطلقوا سراحه. عاد إلى دار السلام في الهند حيث مركز حكومة التيبت في المنفى، وهناك التقى بصديقه القديم الدالاي لاما. قال لنا الدالاي لاما إنهما جلسا بعد كل هذه السنوات يتحدثان عن تجربته وعن ما مر به. في إحدى اللحظات قال البوذي العائد من المعتقل: لقد تعرضت لأخطار كبيرة. فسأله الدالاي لاما: على حياتك؟ قال: لا، هذا لم يكن مهما، ولكن تعرضت لخطر أن أفقد رحمتي وحبي للصينيين عدة مرات ..!

واليوم ونحن نتذكر هذه القصة ونخجل... ونشعر كم مرة إذن ماتت أرواحنا حقدا وغضبا. قال (الدالاي لاما) لهم في ذلك الاجتماع عليكم بالصلوات والعبادات، وحرق البخور وإشعال الشموع، وكل ما يفعله كل منكم في دينه، هذه طقوس وشعائر وأدوات لتساعدكم، ولكن الحق هو عندما تغضب أن تغفر! هذا هو المعنى.