أفروديت بين هلال ونجمة

TT

مسكينة جارتنا قبرص فسمعتها من الثريا الى الثرى فهم اما يذكرونها بأشهر منتجاتها - الحمار القبرصي - او يتذكرون ان افرودايت ربة الحب والجمال ولدت على شواطئها.

وليكرسوا الاسطورة ويبعدوا سيرة الحمار اختار القبارصة صخرة ضخمة في منطقة بافوس يغسلها البحر منذ الأزل وصاروا يقولون لزوارهم هنا ولدت افرودايت الجميلة وطبعا لم يدقق في شهادة ميلادها أحد واكتفى الناس بالمعلومات الفنتازية المتاحة التي تؤكد انها ولدت من الحيوانات المنوية لكرونوس وان رحمها كان صدفة بيضاء حملت ذلك الجمال كله في قاع المتوسط ثم هزت اليها بجذع الصخرة لتلقي فتنة رحمها على الشواطئ القبرصية. ولو خيرت افروديت ـ الموازية لعشتار وفينوس ـ في الولادة من جديد في البحر ذاته لاختارت قطعا الريفييرا الفرنسية بين كان ونيس أو بين نيس ومونت كارلو فهناك لازورد على مد النظر ورمال ناصعة وحصى مغسول وماء نظيف على عكس شواطئ المتوسط في الهلال الخصيب ونجمته قبرص التي يغزوها التلوث والعفن وتحتاج حين تزورها ان تغتسل منها لا فيها.

ولطالما تساءلنا ونحن نقرأ أدبيات الحزب القومي السوري الاجتماعي عن ذلك الاصرار العنيد على ضم قبرص الى الأمة السورية فعبارة (الهلال الخصيب ونجمته قبرص) في تلك الادبيات السياسية المحلية بأهمية (يا عمال العالم اتحدوا) عند الشيوعيين وطبعا لم يتحد عمال العالم ولا انضمت قبرص الى الجامعة العربية لكن الحمير القبرصية مازالت تغزونا بغزارة ـ مع كثرة الحمير عندنا ـ لتذكرنا بالجيران الطيبين الذين يرسلون لنا من يحمل عنا أثقالنا.

لقد تم اعدام انطون سعادة منذ زمن طويل بعد ان سلمه الزعيم الأسخريوطي ويهوذا الحناوي لكن تلك العبارة لم تختف من أدبيات الحزب فالهلال لا يكتمل من دون نجمته وقبرص راسخة قبل الجغرافيا السورية المتوسطية في التاريخ الاسلامي فأول معاركنا البحرية أيام معاوية - ذات السواري - كانت على شواطئها ومن المعروف ان صحابية جليلة ماتت هناك وما يزال مزارها الى اليوم بين لارنكا ونيقوسيا لكن من غير المعروف لماذا يكون مزارها في الجبل مع انها استشهدت على الشاطئ. وقد سألت عن ذلك فقيل ان خلطا وقع بين تلك الصحابية الجليلة ووالدة أحد السلاطين العثمانيين التي ماتت في تلك الجزيرة ولما كانت قبرص مثل ثلاثة أرباع الامة العربية تحت سيطرة الأتراك لثلاثة قرون صار الاهتمام بأصحاب السلاطين أكثر من الصحابة في جزيرة شغل الاسلام ركنا صغيرا منها ثم تقلص مع تقلص نفوذ الاتراك وانحصارهم في الجزء الشمالي قبل قيام جمهورية رؤؤف دنكتاش العتيدة بوقت طويل. وفروقات موطن فينوس ليست في الاديان فحسب بل في الشواطئ فالشاطئ القبرصي في الجانب التركي من الجزيرة ـ فاماغوستا ـ ومع جماله الفاتن خاو على عروشه تصفر فيه الرياح بينما الشاطئ المجاور في الجانب اليوناني - ايانابا - يغلي بالبشر وخصوصا بالبريطانيين الذين ما تزال لهم قاعدة عسكرية في الجزيرة تحتل أجمل منطقة على الشاطئ بين ايانابا ولارنكا.

ان قبرص التي تجاور فيها الاسلام مع المسيحية وتقلبت مصائرها بين الامم ظلت مخلصة لإرثها الفينيقي وشكلت بالفعل - وهنا المنطق الخفي في ادبيات الحزب القومي السوري - جسرا بين حضارة الهلال الخصيب والحضارة الأغريقية فقد عبرها قدموس في طريقه الى كريت بحثا عن أخته اوروبا ونقل معه كما تقول الاساطير المؤيدة تاريخيا الأبجدية الفينيقية التي طورها الاغريق بعد ان تبنوها زمنا وكتبوا بها وحين ظهر الفلاسفة الرواقيون كان معظهم من الاسكندرون او صيدا.

وقد رفض الغربيون طويلا الاعتراف بذلك الجسر وكأن الحضارة الأغريقية التي هي مرجعيتهم التاريخية قد ولدت من فراغ ولم تعتمد في تطورها على حضارات شرقية سبقتها في مصر وبلاد الرافدين وأصروا على ذلك الرفض ودعموه بأدلة واهية لكن المكتشفات الحديثة في كهوف قبرص النائمة بقلق بين عالمين متناحرين دحضت معظم تلك الأباطيل الخرافية التي تسترت باللبوس الأكاديمي فالمقابر والرسوم والكتابة ودفن الأحصنة مع فرسانها كلها عادات فينيقية صارت شائعة بين جميع حضارات المتوسط في عصور ما قبل الميلاد.

وقد فند مارتن برنال في كتابه (أثينا السوداء) معظم تلك الحجج الاستعلائية التي ترفض القول بأصل شرقي لأم الحضارات الغربية واعاد رسم الدروب التي عبرتها الحضارات المتوسطية من السومريين في العراق والفراعنة في مصر والفينيقيين في سورية الى اليونان ثم الى ايطاليا حيث سيعاود الرومان الطريق معكوسا ويجعلون سورية ومصر من ركائز الامبراطورية الرومانية التي حكمها أباطرة سوريون لأكثر من سبعين عاما.

وفي ذلك المخاض الصعب الطويل كانت قبرص تنتقل من يد الى أخرى من دون ان تفقد تعاطفها مع جيرانها في الجغرافيا فمواقف المطران مكاريوس ـ الاب الروحي للقبارصة المعاصرين ـ المشرفة من القضايا العربية كانت منارة مضيئة في زمن أوشك فيه الباطل ان ينتصر على الحق وكان العالم بحاجة ماسة الى رجال شجعان شرفاء من تلك الطينة النادرة. وسواء كنت مغرما بالجمال وتود ان تؤدي حق الزيارة لافروديت في بافوس او كنت تريد اقتناء حمار قبرصي من نيقوسيا فان تلك الجزيرة التي أخنى عليها الدهر سترحب بك هذه المرة بطريقة مختلفة فقد صارت حديثا عضوا في الاتحاد الأوروبي وملزمة بتطبيق قوانينه لكن تلك القوانين التي تأتيها مع وعود البحبوحة والرخاء ستقلل بالتأكيد من تجهمها وربما تزيد في فتنتها فالغنى بالنسبة للجزر ـ كالثراء بالنسبة للنساء ـ يجعلهن في عيون المحرومين أشهى وأحلى.