سليم الحص.. للحقيقة والتاريخ «1» ــ قصة نهاية العمل السياسي وبداية العمل الوطني

TT

بداية ونهاية ليست هذه هي المرة الاولى التي يلجأ فيها رئيس الحكومة اللبنانية السابق الدكتور سليم الحص الى القلم لكي يسجل او بالاحرى لكي يوثق تجربته في الحكم. وهي تجربة ثرية بكل المعايير ووطنية بكل المعايير قبل ان تكون سياسية. وميزة الحص انه من السياسيين اللبنانيين القلائل ـ وربما العرب ـ الذين تربطهم صلة وطيدة بالقلم. والذين يعرفونه عن قرب. يعرفون انه شديد الحرص على ان تكون حتى تصريحاته السياسية اليومية او الآنية صيغة راقية من دقة التعبير وحسن الاسلوب.

في 3 ايلول (سبتمبر) 2000 خسر الرئيس سليم الحص موقعه النيابي في الانتخابات التي جرت حينها. وقد تراوح تقييم نتيجة الانتخابات بين ان تكون صدمة او مفاجأة او متوقعة الخ.. لكن الخاسر الابرز ـ سليم الحص ـ عرف كيف يتقبل النتيجة ومعانيها فأعلن انه خرج من العمل السياسي الى العمل الوطني واعتبرها مناسبة للعودة الى القلم الذي افتقده دون ان يفقده.

في توثيقه الجديد لآخر تجاربه في الحكم بين العامين 1998 و2000 والذي صدره بعنوان «للحقيقة والتاريخ» يروي الحص تفاصيل غير معروفة عن معركة الانتخابات وتداخلات المال والسياسة والاعلام فيها، وهو يقصد من وراء كل ذلك ان يتحدث عن الديمقراطية بقوانينها العامة وبمقاييسها اللبنانية. وبالتأكيد فان الحص لا يتحدث في هذا الشأن حديث اللائم او المتهم بقدر ما هو حديث الدارس المجتهد او المحذر الغيور. يبقى ان هذا الحس النادر من الغيرة هو ما يقدره اللبنانيون في سليم الحص، فخبروا فيه على مدى ربع قرن نظافة الكف وعفة اللسان المحصنة بـ «سلاح الموقف» لان لا سلاح آخر لديه. ومما لا شك فيه ان ابناء دائرته الانتخابية يحفظون له هذه الميزات في قلوبهم على الرغم من ان اصواتهم لم تفصح عن نفس التعبير.

وابتداء من اليوم وكل اثنين وخميس تنشر «الشرق الأوسط» فصولاً من مذكرات الرئيس الحص الجديدة.

في 3 أيلول (سبتمبر) 2000 كانت نهاية وبداية. خسرت يومها نيابتي ومعها موقعي السياسي. فكانت الخاتمة لحياة سياسية طويلة دامت 24 سنة، بدأت بهبوط رئاسة الحكومة عليّ، على نحو لم يكن مقدّراً أو منتظراً، وذلك بحكم صداقتي آنذاك مـع المغفور له الرئيس الياس سركيس والتي كانت التجربة المشتركة والثقة المتبادلة لحمتها وسداها منذ كان هو في موقعه حاكماً لمصرف لبنان وكنتُ رئيساً للجنة الرقابة على المصارف. وانتهت حياتي السياسية بسقوطي في انتخابات بيروت النيابية .

أما كيف كانت النهاية فقد عرضت لظروفها في مؤتمرين صحافيين، الأول عقدته غداة الانتخابات في 4 سبتمبر (ايلول) 2000، والثاني في 15 اكتوبر (تشرين الأول) غداة دخول الحكومة دستورياً مرحلة الاستقالة. قلت فيهما في ما قلت:

كنا قد أعلنا خلال المعركة الانتخابية أننا قلقون، قلقون على ديمقراطية الانتخابات النيابية وحريتها، كما على كرامة الإنسان في لبنان، وعلى القيم الأخلاقية والاجتماعية والإنسانية فيه، ومصدر قلقنا أن الأسلحة المستخدمة في هذه المعركة لم تكن مشروعة ولا متكافئة. ومن هذه الأسلحة المال والحملات الدعائية والإثارة الفئوية.

فلقد لعب المال السياسي، أي المال الموظف سياسياً، دوراً في هذه المعركة الانتخابية كما لم يلعب في أي معركة انتخابية في الماضي. بذل المال السياسي للتحكم بمسار الانتخابات كما لم يبذل في أي وقت مضى. صُبّت شلالات من المال في ميدان المعركة فأضحى لكل شيء ثمن: للجدران والشرفات والنوافذ وأعمدة الكهرباء، حيث كانت تلصق أو ترفع صور المرشحين ولافتاتهم وشعاراتهم، وأضحى حتى للضمائر ثمن، فبات الولاء يساوي حفنة من المال. وقد صرف على معركة بيروت من المال، من صناديق المتسلحين به، أكثر مما يُصرف عادة على الانتخابات الرئاسية الأميركية في كل الولايات المتحدة الأميركية. كل هذا ونحن نتغنى بديمقراطية النظام في لبنان. فيا للمفارقة. لم نكن نغالي عندما قلنا: إن المال فاسد ومفسد: أفسد المجتمع إذ أضحت الساحة الانتخابية أشبه بسوق نخاسة تباع فيها الضمائر وتُشرى. وخَنَقَ حرية الفرد فأضحى صوت المواطن تعبيراً عن رغبات المتسلحين بالمال لا تعبيراً عن مشيئة المواطن الحرة. وأمست القيم الأخلاقية والاجتماعية والإنسانية في مهبّ الريح إذ حلّ الرضوخ لإملاءات المال السياسي محل الاحتكام إلى ضمير المواطن ووجدانه واقتناعاته. ومما زاد في وطأة المال السياسي أنه كان أيضاً أداة لبسط هيمنة سافرة على قطاع واسع من وسائل الإعلام. وقد وُظفت هذه الهيمنة في خدمة مآرب سياسية معينة من خلال حملات دعائيّة منظّمة. حاولت الحكومة، إستباقاً لما هو آتٍ، قطع دابر المال السياسي والحدّ من سطوة الهيمنة الإعلامية في الانتخابات النيابية فوافق مجلس الوزراء على مشروع قانون يحدّد سقفاً للإنفاق الانتخابي مستوحى من القوانين النافذة في هذا الصدد في فرنسا وبريطانيا. وكذلك نصّ المشروع على تنظيم استخدام وسائل الإعلام في الحملات الانتخابية بحيث يتأمّن حدّ أدنى من العدالة بين المرشحين المتنافسين في إمكانية توسُل الإعلام في الحملات الانتخابية. ولدى إحالة المشروع على مجلس النواب في أواخر شهر يناير (كانون الثاني) 2000 أثيرت حوله اعتراضات، فدُفِن في أدراج مجلس النواب ولم يُحَل على اللجان المختصة فمات في المهد. ولو أُقرّ هذا المشروع لكان مسار العملية الانتخابية غير ما كان.

واستغلّت العصبيات الفئوية الرخيصة، وبخاصة الطائفية والمذهبية، سلاحاً في المعركة، فلم يتورّع بعض المرشحين عن إطلاق موجات عارمة من العصبيات الفئوية ليمتطوها وصولاً إلى أهدافهم الانتخابية الآنية. وما علموا، والأدهى إذا كانوا يعلمون، أن الطائفية في لبنان سيف ذو 18 حداً، نظراً لوجود 18 طائفة معترفاً بها في لبنان. وما علموا، والأدهى إذا كانوا يعلمون، أن هذا السلاح لن يكون ضحيته سوى لبنان الوطن، لبنان الوحدة الوطنية، لبنان العيش المشترك، لبنان الوعد المشرق.

من هنا كان قولنا ان تلك المعركة الانتخابية كانت هي الأشرس والأوسخ في تاريخ الانتخابات في لبنان. كانت العملية الانتخابية حرّة ونزيهة ومُنتظمة داخل مراكز الاقتراع، ولكن الانتخابات لم تكن ديمقراطية، ولا حتى حرة في أجوائها، وذلك بقدر ما خضعت لعصف المال السياسي والهيمنة الاعلامية والعصبيات الفئوية. في تلك الحال غدت الحرية في لبنان، ويا للمفارقة، أسيرة. هذا ناهيك عن تدخّل الأجهزة اللبنانية والسورية في صنع القوائم الانتخابيّة بما سُمّي تعليبا.

إلى كل ذلك فإننا شعرنا، من متابعتنا لظروف التحالفات التي عقدت في تشكيل القوائم الانتخابية، كما من متابعتنا لمسار عملية الانتخابات أنّ القِوى التابعة أو الموالية لجهاتٍ أمنيّة لبنانيّة وسورية نافذة في لبنان لم تكن إلى جانبنا، وذلك خلافاً لما كان يُقال لنا أو يُوحى إلينا. وقد صُدمنا بمبادرة ثلاثة وزراء في حكومتنا من المحسوبين على سورية أو القريبين منها بمهاجمة الحكومة في وقتٍ حرج ودقيق خلال المعركة الانتخابية، وهم الوزراء ميشال المر وسليمان فرنجية ونجيب ميقاتي. رددت عليهم في تصريح صحافي ذكّرتهم فيه بأنّهم أعضاء في الحكومة التي يهاجمون وشركاء في قراراتها وفي أدائها. وعندما فاتحت نائب رئيس الوزراء ميشال المر مُعاتِباً، أجاب بأنّ أمامه معركة انتخابية. فرددت عليه بالقول: «إنّ أمامي أنا أيضاً معركة انتخابية، فهل هذا يبرر هجومنا على الحكومة؟» فقال: «ولكن هناك أزمة معيشية». فقلت له «إنني أتحدّث يومياً في الأزمة المعيشية في حملاتي الانتخابية مخاطباً الناس شارحاً ومُحلّلاً ومُفسّراً. فما الداعي للهجوم على الحكومة؟».

خرجت من المعركة الإنتخابية خاسِراً، ومعي على «لائحة العمل الوطني» ثلاثة من أعضاء حكومتي. أجلّ خسرت، ولكن بعد أن خضت معركة مضنيّة حقّاً، بدا لي أنني أبليت فيها بلاءً حسناً. كان عليّ أن ألتقي الناس يومياً غير مرة، وكم من يومٍ كان عليّ أن أخطب في الناس أو أحاورهم لا أقل من ثلاث مرات. ولكن عبثاً نتحدّث إلى الناس في كنف سطوة المال والتفوّق الإعلامي والإثارة الفئويّة. ففي تلك الأجواء قلّما يكون للكلمة وقع أو صدى. قيل إن أداء حكومتي أو سوء أدائها، هو الذي أدى إلى تلك النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات النيابية. فقلنا إن في هذا القول تضليلاً، فلو صح هذا القول فما الذي يفسر سقوط سوانا في الانتخابات من وجوه العاصمة بيروت الذين لم تكن لهم علاقة بأداء حكومتنا. ثم ما الذي يُفسّر، إذا كان الأمر كذلك، فوز خمسة من أعضاء الحكومة في سائر المناطق؟

كان قدر هذه الحكومة أن تتولى مسؤولية الحكم في أصعب الظروف التي خيّمت على لبنان في حالة السلم الأهلي. وقد زاد في صعوبة هذه الظروف أن الحكومة كان عليها أن تواجه أعتى آلة إعلامية دعائية شهدها لبنان في تاريخه، تجسدت في هيمنة المال السياسي على قطاع واسع من وسائل الإعلام.

تعرّضت حكومتنا منذ لحظة قيامها إلى حملة إعلامية دعائية شعواء أخذت تضرب على الوتر الفئوي، وتبرز السلبيات إلى حد تضخيمها، وتطمس الإيجابيات إلى حد إعدامها، وظلت مطرقة هذه الحملة المضللة تضرب حتى حفرت في الرأي العام فبات قطاع لا يستهان به من الناس يصدق أن حكومتنا لم تفعل شيئاً وأنها وقفت موقف المتفرّج مكتوفة الأيدي أمام تلاحق المشاكل والأزمات. قديماً قيل إنك لتستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت، وبعض الناس كل الوقت، ولكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت. لقد استطاعوا، بحملاتهم الإعلامية الدعائية المركّزة، أن يخدعوا كثرة من الناس ردحاً من الزمن، ولكن حبل الخديعة، كحبل الكذب، قصير. ولسوف تنتصر الحقيقة إن عاجلاً أم آجلاً، ونحن على يقين من أن التاريخ سينصفنا ولو أنّ الانتخابات خذلتنا. كانت لحكومتنا منجزات كثيرة في مختلف الميادين، توجت بالانتصار التاريخي العظيم الذي حققه شعبنا في عهدها على أعتى قوة عسكرية في المنطقة، وذلك إذ جلت قوات الاحتلال الإسرائيلي عن أرض لبنان من دون قيدٍ أو شرط. وقد واكبت حكومتنا مسيرة التحرير المباركة بمواقف وسياسات داخلية وخارجية داعمة ورافدة ومؤازرة، فاكتسبت المقاومة في عهدها شرعية عربية ودولية. ولئن كان يسجل على هذه الحكومة أي فشل، فهو الفشل في التغلّب على سلبيات ورثتها من الماضي. لم تتمكن حكومتنا خلال عمرها القصير من معالجة تركة ثقيلة من الدين العام تترتب عليه فوائد باهظة هي وحدها مصدر العجز الذي تنوء تحت وطأته خزينة الدولة، ذلك العجز الذي كان مصدر كل علّة في الاقتصاد الوطني اللبناني، بما في ذلك ارتفاع معدلات الفائدة في السوق وتفاقم في الأزمة الاقتصادية الاجتماعية. وكان من شأن عجز الخزينة أيضاً التضييق على قدرة الحكومة على تقديم كل الخدمات والتسهيلات التي كانت تمليها المرحلة. ولم تقف الحكومة مكتوفة الأيدي أمام معضلة الدين العام بل وضعت برنامج عمل للتصحيح المالي برسم التنفيذ وإنما على امتداد خمس سنوات.

غالباً ما يغيب عن أذهان المواطنين، تحت وطأة الحملة الدعائية، أن الأزمة الاقتصادية الاجتماعية لم تنشأ مع حكومتنا بل هي بدأت قبل سنوات واستمرت في التفاقم خلال عهد هذه الحكومة، إلا أن أبواق الدعاية المضللة نجحت في إيهام الناس أن حكومتنا وحدها هي المسؤولة عن الأزمة المتفاقمة. ولا ننسى أن عهد هذه الحكومة كان حافلاً بالأحداث الجِسام التي لم يساعد وقوعها على تجاوز سلبيات المرحلة، بما في ذلك اعتداءات إسرائيلية شبه يومية بلغت ذروتها في ثلاث غارات مُدمّرة خلال أقل من سنة استهدفت البنى التحتية ودمرت بعض المنشآت الكهربائية الحيوية. فكان من جرّاء هذه الأحداث تكبيد لبنان خسائر ونفقات إضافية كما كان من شأنها التأثير سلباً على حركة الاستثمار وحركة السياحة والاصطياف ومن ثم الحركة الاقتصادية العامة. لعل هذا كان هو الثمن الذي كان على لبنان أن يدفعه ليجني ثمرة التحرير. ومن الثمن الذي دفعه لبنان أيضاً أن التزامنا خط التحرير على النحو الذي كان لم يعجب بعض دول القــرار عربياً ودولياً فحجبت عنّا المساعدات التي كانت يمكن أن تخفف من غلواء الأزمة الاقتصادية الاجتماعية وتمكن الحكومة من تنفيذ برامجها. يبقى أن أسوأ ما انتجته الحملات، تحقيقاً لأغراض سياسية آنية ضيقة، إطلاق موجة مذهبية طائفية تكاد تهدد الوحدة الوطنية وتسيء أيما إساءة إلى القيم والمبادئ التي يقوم عليها هذا الوطن. ولم يدرك أرباب هذه الحملات، والأدهى إذا كانوا يدركون، أن المذهبية تولّد مذهبيات، وقد قلت يوماً ان الطائفية في لبنان سيف ذو ثمانية عشر حداً. ألا فليخافوا الله في استخدامه. بالعودة إلى أداء حكومتنا أقول: لعلّنا وُفقنا في بعض ما قمنا به ولم نوفق في بعضه الآخر. ولكن من حقي أن أقول: اللهم أشهد اني حاولت. هكذا كانت النهاية: نهاية مرحلة من حياتي، ولكنها يجب أن تكون أيضاً بداية، بداية مرحلة جديدة. إنني لم أكن في لحظة من اللحظات أنا القضية، بل القضية كل القضية كانت وستبقى هي القيم والمبادئ والأهداف التي نؤمن بها. فإن لم نستطع التعبير عن تمسكنا بها من خلال العمل السياسي، فلنعبّر عن تشبّثنا بها من خلال العمل الوطني. نحن نقبل بأن تكون السياسة هي الوسيلة، هي الأداة، هي النهج، ولكن قيمنا ومبادئنا وأهدافنا لم تكن يوماً، ولا يجوز أن تكون، إلا وطنية. طريق السياسة هي المناصب، هي الاحتراف، وأحياناً كثيرة هي الانتهازية والوصولية. أما طريق الوطنية فهي التجرد والتضحية والعطاء والرؤية المستقبلية. ونحن إذ نشيح النظر عن المقعد النيابي والمقعد الوزاري والمقعد الرئاسي إنما نعرض عن العمل السياسي وننصرف إلى العمل الوطني. ناذرين أنفسنا لخدمة قيم ومبادئ وأهداف سامية تتمحور على الحريات العامة وحقوق الإنسان في وطنه والعدالة والمساواة ومقتضيات الوحدة الوطنية والعيش المشترك، في ظل دولة قادرة وعادلة، دولة القانون والمؤسسات، وفي كنف فيض من الأمن والاستقرار والنماء والازدهار. لقد أخرجتنا المعركة الانتخابية من حيّز العمل السياسي إلى حيّز العمل الوطني. في حديثنا عن العمل السياسي والعمل الوطني لا نقصد القول أن بينهما شيئاً من الطلاق. فخير السياسيين هو الذي يلتزم العمل الوطني وأسوأهم هو الذي يعمل في السياسة للسياسة، وهو المحترف. وأنا لا أعتبر نفسي من محترفي السياسة ولو أنني تفرّغت للعمل السياسي الوطني ردحاً من حياتي. وأنا أرى في تجربتي الوطنية الطويلة أعز ما أملك في حياتي. فلئن حاولوا إلغائي سياسياً، وهذا ما أرادوا، فإنّه يعزّ عليّ أن يتمكنوا من إلغاء تاريخي الوطني. غادرتُ الساحة السياسية ولي نظرة في الحياة السياسية. قلت سابقاً وأقول اليوم ان في لبنان الكثير من الحرية وإنما القليل من الديمقراطية. فالحريات مصانة بكل أشكالها وتجلياتها: حرية الرأي والمعتقد والتعبير والتحرك والعمل، وقد سمحنا حتى بحرية التظاهر التي كانت قد حجبت في عهود سابقة. أما ترجمة ممارسة الحرية عملياً في الحياة الديمقراطية فما زالت نادرة. فالديمقراطية متلازمة مع تكافؤ الفرص أمام جميع المواطنين، أما في لبنان فتكافؤ الفرص سليب إلى حد بعيد في ظل الطائفية والمذهبية والعشائرية والمحسوبية. والديمقراطية متلازمة مع المساءلة والمحاسبة، أما في لبنان فالمحاسبة السياسيّة مُغيّبة إلى حد بعيد وراء متاريس الطائفية والمذهبية والعشائرية والقيم الاجتماعية المشوهة التي تختلط فيها الشطارة بالتجاوز والاستباحة.

ثم إن الديمقراطية صمّام أمان يحول دون انفجار أزمات أو مِحَنّ وطنية. فلا أزمات أو محن وطنية في الديمقراطيات الأكثر تقدماً في العالم. أما في لبنان فقد شهدنا سلسلة من الأزمات الوطنية منذ الاستقلال كانت أعنفها وأطولها الأزمة الوطنية الكبرى التي عصفت بلبنان عبر أكثر من خمسة عشر عاماً. وقبلها كانت أزمة 1958، وهذا دليل على غياب صمام الأمان الذي يتجلى في الديمقراطية. في ظل هزال الديمقراطية بدت الحياة السياسية في لبنان شاحِبة عليلة فاقدة المناعة والضوابط. قلت يوماً، في ضوء تمرسي بالتجربة السياسية، اننا بتنا نحسد الغاب على شريعته. كثيراً ما يُعيِّر الغاب على شريعته عندما يجري الحديث عن شريعة الغاب، ونحن بتنا في السياسة نحسد الغاب على شريعته. في شريعة الغاب لا افتراس إلا في حال الجوع، ثم إن أي مخلوق من مخلوقات الغاب لا يفترس أحداً من أبناء جلدته، فلا تجد الذئب يلتهم ذئباً ولا النمر يلتهم نمراً. أما في الحياة السياسية في لبنان فلا شريعة ولا ضوابط. فالضرب على غير هدى، فلا اعتبار لزمالة أو صداقة ولا تقدير لظروف قاهرة أو حالة موروثة، والغلبة في كثير من الحالات للمصالح الآنية والمال السياسي. والافتراس هو سنّة الحياة السياسية. أما المعارضة، التي لا ديمقراطية من دونها، فكثيراً ما تكون مغرضة وموتورة وبالتالي غير بناءة. ليس في الدنيا لعبة إلا ولها قواعد، اللَّهم إلا اللعبة السياسية في لبنان. فهي لعبة بلا قواعد: لعبة الشطرنج كما لعبة الورق ولعبة النرد ولعبة الكرة ولعبة الملاكمة وحتى المصارعة الحرّة، كلها لها قواعدها. أما اللعبة السياسية في لـبنان فلا قواعد لها. من أجل ذلك يحلو لي أن أقول إنني كنت متفرغاً للسياسة ولكنني لم أكن محترفاً لها. فالمحترف السياسي هو الذي يسعى للوصول إلى الحكم، وإذا كان في الحكم فهو يسعى للبقاء فيه، وإذا خرج من الحكم فهو يسعى للعودة إليه. ويشهد اللَّه أنني لم أسعَ يوماً للوصول إلى الحكم أو البقاء فيه أو العودة إليه، وأنا عملاً بمبدأ اعتنقته، وهو أن المسؤول يبقى قوياً إلى أن يطلب أمراً لنفسه، لا أطلب أمراً لنفسي، حتى ولا المقعد النيابي أو المقعد الوزاري أو المقعد الرئاسي. هناك طريق واحدة لإخراج لبنان من الحالة السياسية المتردية التي تسيطر عليه، ألا وهي طريق تفعيل الممارسة الديمقراطية وتنمية الثقافة الديمقراطية من خلال العمل المنهجي المبرمج على تجاوز الحالة الطائفية والمذهبية التي تشكل العقبة الأولى في وجه الديمقراطية. عبثاً نَسعى إلى بِناء دولة القانون والمؤسسات، وعَبثاً نَسعى إلى بِناء الدولة القادرة والعادلة، وعَبثاً نَسعى إلى بِناء المجتمع الأفضل خارج إطار الديمقراطية. لِذا قلنا ونَقول: إنّ في برنامجنا الديمقراطية أولاً والديمقراطية ثانياً والديمقراطية ثالثا. كانت لي كلمة بعد خمسة أيام من الانتخابات ألقيتها في تظاهرة من أبناء صيدا احتشدت في الساحة المقابلة لمنزلي في بيروت، وقد أوعز بهذه التظاهرة الصديق الكريم مصطفى سعد، وكان في مقدمها شقيقه الدكتور أسامة سعد. وقد عبّرت في الكلمة عن نظرتي إلى نتائج الانتخابات فقلت:

يوم الإنتخاب لم أفُزّ بمقعدٍ نيابي. هذا حكم الناس، ونحن نرضخ لحكم الناس بكل رضا وراحة ضمير. خلال حملتنا الانتخابية كُنّا نُخاطب الناس بالقول: مارسوا حقّكم في الاقتراع وادلوا بأصواتكم. فإن اقترعتم لنا فنحن نعتزّ بثقتكم فينا، وإن اقترعتم ضدّنا فنحن نحترم إرادتكم وننحني لها. وها نحن نعود فنؤكّد احترامنا لمشيئة الناس وننحني لها، راجين لمن فازوا بثقة الناس النجاح والتوفيق. إنّني أحمد اللَّه الذي منَّ عليَّ بأن تكون لي في هذه الانتخابات التي خذلتني آخر مأثرة. وهذه الانتخابات كانت في نظري فعلاً كذلك بما تميّزت به من نزاهة وانتظام في ظل أمنٍ وارف الظلال. وليكن سقوطي قرباناً لهذا الإنجاز. تعلّمتُ من تجربتي السياسية الغنيّة درساً، هو أنّ المسؤول يبقى قوياً إلى أن يطلب أمراً لنفسه. وأنا والحمد للَّه لم أطلب، طوال تمرّسي بالمسؤولية والسياسة، أمراً لنفسي، ولن أشذ عن هذه القاعدة اليوم فأطلب مقعداً نيابياً لنفسي. معاذ اللَّه. أنا لم أنظر يوماً، ولا أنظر اليوم، إلى المقعد النيابي بأنه مكسب شخصي. لم تكن المسؤولية، ولا النيابة، مطيّة لتحقيق أي مأرب شخصي، وإنما كانت سبيلاً لخدمة قضيّة: قضيّة الإنسان وقضيّة الوطن وقضيّة الأمّة. لقد خدمت على هذا المستوى طويلاً قبل أن أكون نائباً، وسأسعى إلى متابعة هذا الطريق بعد خروجي، أو إخراجي، من النيابة. هناك ألف طريق وطريق للخدمة الاجتماعية والوطنية والقومية. وأنا إذ أطوي صفحة من حياتي أقول: أنا باقٍ معكم، باقٍ مع هذا الشعب الطيّب، مع هذا الشعب الوفي، في السرّاء والضرّاء، راجياً أن تكون أيامه المقبلة كلّها سرّاء. أعود الآن مرتاح الضمير إلى كل ما ومن هجرت طويـلاً: إلى نفسي، إلى أهلي وأحبّائي، إلى كتابي، إلى قلمي، عسى أن يكون لي في ذلك مُتّسع لخدمة مُجتمعي ووطني وأُمّتي من موقع جديد.

عقد المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي في 14/10/2000 دورة طارئة في بيروت دعماً للإنتفاضة الفلسطينية. وكانت لي في اللقاء كلمة، كما كانت لأمين عام حزب الله، قائد المقاومة، السيد حسن نصر الله كلمة بعدي. وقد ختم السيد نصر الله كلمته بالقول: «كنت أبحث في هذه الأيام عن مناسبة في حضور دولة الرئيس الحص وهو يغادر موقعه الرسمي لأقدم له الشكر باسم كل مجاهد في المقاومة على وطنيته ومناقبيته ووقوفه الصادق إلى جانب مقاومة شعبه.

وأقول له إننا نفتخر به في أي موقع كان». أما هذا الكتاب فقد شئته أن يكون، من جهة نقداً ذاتياً، ومن جهة ثانية رداً واضحاً وصريحاً على الحملات الدعائية المضللة والجائرة التي تعرضت لها طوال عهد الحكومة التي ترأست في بداية عهد الرئيس إميل لحود على امتداد نحو 23 شهراً. وأرجو أن أكون قد قدمت فيه خدمة «للحقيقة والتاريخ»، وأن أكون قد وفقت في الذود عن سجلي الوطني الطويل في وجه محاولات حثيثة لتشويهه وربما إلغائه.

الحلقة التالية: حول أداء الحكومة