إذا لم نكن عرباً فماذا نكون؟!

TT

في محاضرته السياسية التي ألقاها أمام جمهور لجنة مكافحة التمييز في واشنطن، سأل الدكتور عزمي بشارة سؤالا ًهاما وجديراً بان يتم طرحه على كل عربي من المحيط إلى الخليج وفي المغتربات ألا وهو: إذا لم نكن عربا فماذا نكون؟! هل نكون شعوباً متجاورة أم قبائل وعشائر؟ أم ننحدر إلى مستوى الانتماء الضيق لأقليات عرقية ودينية ومذهبية متناحرة ومتخاصمة؟ إذا لم نكن عربا، هل سنكون أكثر أم أقل قدرة على مواكبة العصر الحديث؟ وهل نكون جديرين بالاحترام كأمة حافظت على كيانها القومي طوال آلاف السنين، أم ستكون بداية النهاية بالنسبة لنا كأمة تميزت عن باقي الأمم بتواصلها الحضاري عبر القرون الطويلة حين زالت أمم ونشأت أمم أخرى وبقينا عبر القرون والخطب أمة عربية واحدة؟.. في لقاءات مع مفكرين عرب في واشنطن مثل كلوفيس مقصود وحليم بركات وزياد الحافظ وداوود خير الله وغيرهم كثر، اتفق الجميع على أن أحداث المنطقة اليوم تبرهن دون أدنى شك أنّ التمسك بالعروبة هو الخلاص الوحيد لهذه الأمة، وأن المنطق القومي أثبت اليوم أنه الوحيد القادر على تأهيل مستقبل أفضل للعرب جميعا، فكلّ المآسي التي يعاني منها العرب ناجمة عن نظام التجزئة السياسي الذي فُرضَ قسراً على العرب، وأدّى إلى تفتيت قواهم وتشتيت جهودهم، وبالتالي استفراد عدوهم بهم بلداً بعد آخر ونظاماً بعد آخر.

وتناغمت هذه الطروحات في ضميري مع فحوى محاضرتين ألقاهما المفكّر والزعيم الماليزي مهاتير محمد في دمشق وبيروت حيث تحدث عن التجربة الماليزية الحديثة التي وضعت ماليزيا كأمّة فتية على خارطة الدول الصناعية، مبيناً خطط هذه الأمة الماليزية لتتبوأ الموقع الذي تريد أن تتبوأه عام 2020 وما بعده. في حديثه عن إنشاء الأمة الماليزية، قال رئيس الوزراء السابق إن الماليزيين الذين كانوا يعانون من الفقر والإحباط والأميّة والبطالة، والأخطر من كل ذلك التشتت السياسي عبر العديد من السلطنات، يشعرون اليوم بكرامة واعتزاز بحيث يشعر كل ماليزي بأنه قادر على أن يفعل ما يمكن لأي إنسان في العالم فعله. حتى على مستوى قيام ماليزي بالإبحار لوحده حول العالم لمدة ثلاثة أشهر وتسلّق أربعة آخرين قمة إفريست كما عبر ماليزي آخر القناة الإنجليزية وكأن كلّ التقدم الصناعي والعلمي لا يكفي لإثبات نهضة هذه الأمة! فبفضل الوحدة الماليزية تشهد البلاد قلة البطالة وارتفاع مستوى الدخل وغزو الصناعات الماليزية للبلدان الأُخرى وهي بلدان كبيرة وعريقة. واستغرب مهاتير محمد أن تكون الدول العربية أول الدول المصدرة للنفط في العالم مع استمرار افتقارها لصناعات بتروكيماوية، وأن تقارب ودائع العرب في بنوك سويسرا التريليون دولار ذات العائدات البسيطة جداً، أي أنّ العرب ما زالوا في مرحلة تشبه مرحلة ماليزيا حين كانت تبيع المطاط والكاكا وزيت النخيل غير المصنّع قبل عقود من الزمن.

وبين واشنطن ودمشق وبيروت، وبين أحداث البارحة وأحداث اليوم، نستطيع أن نجزم أنّ المستهدف في كل ما يدور في المنطقة العربية منذ أكثر من قرن، من العراق إلى فلسطين إلى السودان هو القومية العربية كوجود حضاري تاريخي و كمكونات ثقافية ممثلة في الانتماء السياسي. وإن لم تتمّ إلى هذه اللحظة ترجمة شعور مئات الملايين من العرب القوميين ترجمة سياسية واجتماعية واقتصادية حقيقية، فإن القومية العربية تبقى الوحيدة التي توفر الرؤية لحلول سليمة وقادرة على النهوض بهذه الأمة من حالة الضعف والتشتت التي وصلت إليها أنظمتها السياسية مؤخراً. وكي يتمّ إلغاء هذا الموروث القومي من التكوين الثقافي للأجيال القادمة توضع الخطط وتبذل الجهود وترصد الأموال من قبل جهات وتحت رعاية دول ما تزال تعاني من عقدة الحروب الصليبية والتي حسمت خيارها في تحويل موروثها الدفين في معاداة السامية إلى استهداف العرب كوجود قومي بمكوناته الثقافية والدينية. وما يتعرض له اليوم العراق والسودان وفلسطين والعرب جميعاُ بشكل أو بآخر من حروب واحتلال وعدوان وتكريس للتجزئة والتشتت والهدر هو نتاج لهذه الخطط والجهود والأموال التي تبذل في إطار حرب الكراهية التي تشن ضدّ العرب كأمة وحضارة ودين بهدف إلغائها كأمة معاصرة. ويقع ضمن ذلك اغتيال العلماء والمفكرين المتميزين وقتل للأبرياء في العراق وفلسطين وغيرها أو تهجيرهم . ولكنّ الأخطر والأكثر كارثية هو الإمعان في تفتيت الكيانات السياسية العربية بفرض أنظمة تشتت كل نظام إلى مجموعة من الكيانات الطائفية والعشائرية بهدف تغيير الهوية العربية وإلغاء الموروث الحضاري والتاريخي والثقافي والعلمي والأدبي للوطن العربي، وتحويله إلى سجل تاريخي قديم لأمة بائدة عاشت يوماً في هذه الأصقاع. والأخطر هو قيام الفضائيات المموّلة من الجهات التي تشنُّ الحملة العالمية للكراهية ضد العرب بتكريس التمزيق الطائفي والعرقي والديني لكلّ بلدٍ عربيٍّ.

من أجل تنفيذ هذا المخطط الكبير والخطير ضدّ العرب يتمّ افتعال معارك لم تحدث في التاريخ بين قبائل عاشت قروناً متحابة متناغمة في دارفور مثلاً، ويتمّ تضخيم الخوف في قلوب الأمريكيين خصوصاً والغرب عموماً من مخلوقات أسطورية تهدّد عالمهم بإرهاب محتمل وتصوِّر جميع العرب، مسلمين ومسيحيين، كأنهم إرهابيون وتنشر الكتب والأبحاث وتصنع الأفلام بهدف تضخيم الهوة بين العرب والغرب وتبرير كلّ هذه المخططات الخطيرة التي يتمّ تنفيذها بينما توجّه أنظار العالم وجهات أخرى كي يبقى العرب الضحايا والمستهدفين دوماً للإبادة الجسدية والسياسية والثقافية كأمة وكدور دولي.

في غمرة الفوضى التي خلقتها الحرب على العراق، والقتل العشوائي للعراقيين والذي أكد وزير الداخلية العراقي أن ثمة أدلة دامغة على أن الإرهاب الدولي الذي يستهدف المدنيين في العراق نفذ بيد وأدوات خارجية. وفي غمرة ما يسمّى بالحلول الأمينة في غزة، والتي تجهز على الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني لأنها تغيّب قضية الاحتلال والاستيطان والقدس واللاجئين، يتبنى مجلس النواب الأمريكي قراراً بأغلبية 407 أصوات مقابل معارضة تسعة ُينكر فيها على اللاجئين الفلسطينيين حق العودة إلى ديارهم التي شُردوا منها، وبذلك يصبح الفلسطينيون أول شعب في العالم يُحرم من حقوقه، فبأي شرعية يقوم الكونغرس الأمريكي بإلغاء حقوق شعب آخر في العودة إلى دياره، أم أن ذلك تعبير جديد من تعابير ومظاهر معاداة السامية في الغرب التي تتخذ من العرب ضحية مستهدفة لنوازع الحقد العرقي والكراهية الدينية.

وفي غمرة التقصير الفكري الذي يعاني منه العرب وتردي حالة العلم والفكر، تقوم جهات خارجية بقتل كل متميِّز عربي كي تسلب هذه الأمة أهم مفكريها، وتضع مراكز أبحاث أمريكية خططاً سريّة لتغيير اللغة العربية باستبدال أحرف لاتينية بأبجديتها وفصل هذه اللغة عن القرآن الكريم لنزع القدسية عنها، وذلك بهدف فصل العرب عن ثقافتهم وتاريخهم ومقدساتهم خلال العشرين عاماً القادمة، فيبدأ هذا المخطط بتسكين أواخر الكلمات والاستغناء عن القواعد، ومن ثمَّ تدريس اللهجات المحليّة بدلاً من اللغة الفصحى، ومن ثم استبدال حروف لاتينية بأبجديتها. ويتواكب هذا المخطط مع افتتاح محطات أجنبية باللغة العربية لتنقل لناشئتها ما يـُزعم عن صعوبة تعليم اللغة العربية وتـُكوّن للأجيال الشابة مفاهيمها عن تاريخها وذاتها ومستقبلها. لقد بدأ يتضح أكثر فأكثر الهدف الأساسي من الحملة على الإرهاب ألا وهو طمس الحق العربي في فلسطين وتدمير الكيان السياسي العربي الحالي وإلغاء أي مضمون عربي للأنظمة الجديدة وتحويل العرب إلى قبائل وأقليات وطوائف في بلدانهم، بعيدين عن عزّة النفس والكرامة التي تحدث عنها مهاتير محمد، والتي تمكن الماليزيون من الشعور بهما خلال عقدين من الزمن بعد تحقيق نهضتهم المبنية على الوحدة القومية. وهذا ما يشعر به الصينيون والهنود والباكستانيون وكلّ الأمم التي نجحت في توحيد أقطارها ولهجاتها وانتماءاتها تحت مظلة واحدة هي الوحدة القومية والانتماء لثقافة وتاريخ ولغة واحدة.