قراءة في حالة العجز العربية الإسلامية

TT

الأزمة التي تشهدها مجتمعاتنا ان هي إلا أزمة حضارة، لا هي سياسية فقط، ولا هي اجتماعية فحسب. أزمة حضارة تجعل مجتمعاتنا عاجزة عن التعامل مع نوازل التاريخ بما فيه الفائدة ويضمن النجاعة. ولا يكون ذلك إلا بالعقل والرؤية. وإنما هذا العجز الذي منيت به مجتمعاتنا هو الذي يراوح بها بين فورات الغضب، والاستكانة والرضا بالدون.

وفي هذا العجز اثبات لفشلنا في تنشئة اجيال تملك الخصال اللازمة للقيام بالمسؤوليات التي ستلقى على عواتقها، في سن الرشد.

معنى ذلك أننا فشلنا في اعداد انظمة اجتماعية وتربوية كفيلة بتكوين الاجيال تكوينا يهذب من طباعها الغريزية، ويعودها إعمال العقل، للأخذ بما هو اجدر آجلا، لا بما فيه شفاء للغليل عاجلا. وهذه الخصال هي التي ترقى بالانسان الى مراتب من الوعي والادراك، أمام فجائية الاحداث.

الهياكل الاجتماعية التي كان عليها اسداء هذا التكوين للأجيال الصاعدة، هي التي اخلت بمهمتها، فتركت الانسان عندنا يتصرف على سليقة من نزواته، فلا يقدر على شيء. مثله مثل السمكة العاجزة التي وصفها ابن المقفع: لا هي قادرة على الاستبصار والاستعداد، قبل حلول الكارثة، ولا هي حازمة في طلب المهرب، عند وقوع ما لم تتخذ له العدة.

وفشل الهياكل التي أوكل اليها التكوين قد تفاقم على مر العصور حتى فتح على مجتمعاتنا أبوابا من السيطرة الاجنبية، من حيث لم تحتسب. فلما حلت بها النوائب القاسية، خاصة منذ القرن التاسع عشر، فإنها لم تَعِ ما هو محْدق بها، لا محالة، بعد الهزائم العسكرية.

واذا نحن دققنا النظر في المواجهات التي لمجتمعاتنا مع الأمم المتقدمة عليها، فإننا نستخلص انها، دوما، صدام بين ثقافة نائمة، وبين ثقافة ناهضة متحفزة، قوتها العلم، وآلة العقل، ورجاحة المبادئ التي تنطلق منها، وثبات القيم التي تذود عنها.

لكن، اذا نحن أمعنا النظر في هذه المبادئ وهذه القيم، فإننا ندرك أنها مما كانت نهجت له أمتنا، في قرونها المشرقة، ففرطت فيه ـ لأسباب يطول شرحها ـ فآل إلى أمم غيرها، فاستقوت به عليها.

وجماع هذه وتلك: التمسك بالعقل، وطلب العلم، والأخذ بالنسبية ـ نسبية الزمان والمكان ـ لتقرير المصلحة العامة، وتقديمها على ما سواها من اعتبارات، وصيانة كرامة الانسان، لا الرجل وحده، في كل التصرفات المجتمعية، الخاصة منها والعامة.

وهذا الثالوث من القواعد ـ فوقية العقل، وكرامة الإنسان، ونسبية المصالح ـ أليس ذلك قوام ما يسمى اليوم بـ«الحداثة»؟

أليست هي التي كانت عنوان مجتمعاتنا في بغداد وقرطبة، فكونت الانسان القادر على التصرف بحكمة ونجاعة؟

فلما تلاشت هذه الخصال، وذهب ريحها، اذا الوهن يصيب الانسان، عندنا، الفرد والمجتمع. واذا الانسان يفقد وعي مسؤوليته في الوجود، واذا مجتمعاتنا تفقد قدرتها على الحراك أمام تقلبات التاريخ، تعدها حتما ليس لها مرد.

***

كيف آلت الاحوال بمجتمعاتنا إلى ما هي عليه؟

ـ مرد هذا التدهور الى ما حصل لديها من اختلال في التوازنات الاساسية: العقلية منها والاجتماعية والثقافية. فبتخليها عن ثالوث الحداثة ـ الذي كانت أنشأته هي، ولم يكن له سابقة في الأمم السالفة ـ نَأى النشاط الفكري عن هموم المجتمع، وانسلخ ما نسميه اليوم بالثقافة عن العلوم الصحيحة التي بها سيطرة الانسان على ما حوله من الطبيعة، وانسلخ النظر الديني عن المعارف العلمية التي اعتبرتها حضارتنا قوام الاجتهادات الفقهية.

بسبب هذه الفجوات المتتالية، انخرم لدى مجتمعاتنا التوازن المعرفي الذي به يبني الانسان منزلته في الوجود، وبفضله تتبوأ سائر المجتمعات مقاماتها بين الأمم.

ومن اخطر ما نتج عن انزواء النظر الديني عن اغلب شؤون المجتمع وعن حركة العلوم، تضاؤل الركيزتين اللتين يقوم عليهما، وهما: العناية بشؤون الدنيا كأنها باقية ابدا، والعمل من اجل الآخرة كأنها واقعة غدا. ذلك انه، بفقدان الصلة بهموم الدنيا وبالمعارف العلمية، وبالتخلي عن ميزان النسبية الذي به تتقرر المصالح في ضوء المقاصد، غلب على النظر الديني الانصراف الى الغيب كلية، وتضاءل الاهتمام بمتطلبات الحياة الدنيا، التي تمهد للآخرة.

ومن أخطر ما اصاب التركيبة الاجتماعية، عندنا، في عصور التدهور، اختلال التوازن داخلها، بين الرجال والنساء، كأن تكريم الإنسان ـ الذي جاءت به حضارتنا: «ولقد كرمنا بني آدم» ـ أصبح مقصورا على الرجال، من دون سواهم، ذلك انه وقع الخلط بين العفة والكرامة، فيما يتعلق بالنساء. فطمست هذه لشدة الحرص على تلك. وتشابه على مجتمعاتنا الغاية والوسيلة. فمالت كل الميل الى التمسك بالوسيلة، وغاب عنها ان الغاية هي المقصود، وعليها المدار، وأن الأعمال بالنيات، لا بظاهر الأفعال. فنسيت مجتمعاتنا أن الوسائل إنما هي مطية لبلوغ الغاية، تتبدل بتبدل الأوضاع، وتتغير بتغير الاحوال، وتتطور بتقلب الأزمان.

هذا الخلط بين الوسيلة والغاية هو الذي جمد الدفق الحضاري في مجتمعاتنا، وأفقد العقل سلطانه في الكثير من الأمور الجوهرية. فتعطلت قاطرات الفعل الحضاري، وانسدت ينابيع الفكر الثقافي، حتى شمل الشلل أغلب مراتب التصرف، في مستوى الحكم، وفي صعيد الاقتصاد، وسائر شؤون المجتمع.

ومن أفدح ما أصاب الكرامة الإنسانية في مجتمعاتنا، عند أفول انوار حضارتنا، اهتزاز نظام الحكم فيها، وغلبة الفساد، ودحض المساواة أمام القانون، وتقلص العدالة الاجتماعية، ونبذ أولي الجدارة. وبذلك تخلت مجتمعاتنا عن مقومات حضارتها.

وتدهور نظم الحكم عائد الى ان مجتمعاتنا فرطت فيما كانت أوصيت به من توخي «الشورى» في سياسة أمرها. والشورى انما هي الأخذ بالرأي الصائب، من أجل درء المظالم. والشورى مقاصد وهياكل. ومقاصدها ثابتة، هي حسن التصرف، لكن هياكلها متغيرة، وهل يراد مما يسمى اليوم بـ «الديمقراطية» غير هذا السعي ـ سعي ليس دوما مكفول التوفيق ـ الى بلوغ مراتب، أعلى فأعلى، من حسن التصرف، لتكون المجتمعات بمنأى ـ بقدر إمكانها ـ عن الظلم، واهدار الطاقات، والنكوص عن غايات العمران؟

والمتأمل فيما بين الشورى والديمقراطية، يدرك ان الاهم هو الغاية، لكن لا بد ان تتخذ لها الوسائل الموصلة، حتى تكون المجتمعات في مسيرة موصولة نحو الأفضل، في معاشها، وفي اخلاقها، وفي اريحياتها المجتمعية والثقافية والروحية.

***

وإنما بسبب هذه الانخرامات المتوالية المترابطة، أصاب النضوب معين النظر الشامل الذي نسميه بـ «الثقافة»، والذي يعبر عن رؤى ومواقف وتوجهات وقيم، هي جماع الشأن الحضاري، عند أمة من الأمم.

وقد كان لأمتنا، طيلة نصوع فكرها، نظر شامل ميزها عن غيرها، وولد ما خالته الأمم معجزة، في الجمع بين الخيرات الدنيوية والنفحات الروحية.

ولأنها اضاعت السبيل الى النظر الشامل الذي هو عماد الثقافة وأهم اسباب قوة الحضارة، فإن مجتمعاتنا انحطت الى الدرك الأسفل من طاقاتها. فأصبحت محط الاطماع، تتهافت الأمم عليها، من دون ان تصدها انفة من كرامة، او تردها هيبة من حضارة.

ولما اتصلت مجتمعاتنا بالأمم المتقدمة عليها، احست بالرغبة في تقليدها، والأخذ بأسباب الحداثة عنها ـ بعد ان كانت هي المؤسسة لها في عصورها الذهبية، حين كانت تقدم المصلحة العامة على سائر المقاصد، وتطلب العلم، ولو في الصين، من دون تقيد بمعيار ديني، وتتخذ للعدل سبيلا في أهم احكامها وتصرفاتها.

وإنما تنكرها لتعاليم حضارتها، وعظيم مقاصد دينها، هو الذي اخرجها عن ركب التاريخ، واظهرها اليوم في مظهر يسيء الى حقيقة حضارتها وجوهر ثقافتها.

وفي ذلك مصداق لما اسلفنا من ان المواجهات بين مجتمعاتنا والطامعين في اخضاعها، انما هي مواجهات حضارية، لا يمكن ان يتغلب فيها الا اصحاب الشأن الحضاري الأقوى، بما اعدوا من رباط العقل، واسباب العزة، وشمولية النظر الى أوصال الزمان، من دون تقطع، ودون ارتهان بأي منها.

فالصبغة الحضارية ليست اذن طارئة على مواجهاتنا مع الغير. ولكن مجتمعاتنا لم يكن لها من قوة الوعي ما يمكنها من ادراك هذه الحقيقة ـ أو هي تغافلت عنها، لاجتناب ان يكون أمرها في الميزان.

***

كيف الخروج، اليوم، من الأزمة الحضارية التي تعاني منها مجتمعاتنا؟ لن يكون لها ذلك إلا مجتمعة متضامنة. فليس الخروج من هذه الأزمة في مقدور أي منها وحده، بمفرده، وبطاقاته الذاتية، لأن الأزمة الحضارية لا تعالج إلا بتضافر الجهود بين كل المجتمعات المشتركة في هذا الشأن الحضاري.

والشأن الحضاري، في هذا المضمار، على فرعين: أحدهما يهم الطاقات الاجتماعية ـ من اقتصاد وتعليم وثقافة وتنظيمات مجتمعية ـ والثاني يتعلق بالأمور الاخلاقية والاعتبارات الروحية. والحقيقة أنهما مترابطان متضامنان.

فأما الذي منهما يتعلق بالاخلاق والقيم الروحية، فكان الاجدر، منذ ثلاثة عقود، أن تتمحض له منظمة المؤتمر الاسلامي، لمراجعة ضافية، تهدف الى اصلاح ما يحتاج الى اصلاح، ولبذل الاجتهادات الكريمة الزكية في الجديد من الاحوال.

والأولى بهذه المنظمة ان تترك في مؤخرة أعمالها المسار السياسي الذي له منظماته الأصلية، وان تتفرغ للشأن الحضاري، بغية النهوض بالأخلاق العامة، والتخطيط للتضامن بين المجتمعات الاسلامية، والتعمق في فهم القيم الروحية، لجعلها في منزلة شرايين الحياة، لدى الافراد والجماعات، تدفع بهم دوما الى مزيد من الرقي والتقدم، لتحقق بهم المباهاة.

وأما ما يهم الطاقات الاجتماعية، فالمدار فيه على تضافر الجهود بين اعضاء المنظمة التي تجمع شتات مجتمعاتنا العربية، لتنظيم التعاون بينها: وهي جامعة الدول العربية، واجنحتها العاملة في سائر الحقول.

فليس أوكد لديها اليوم من التوجه بكلية جهودها الى النهوض بأعباء الرسالة الحضارية التي تفرض اعادة النظر في تنظيماتنا الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والثقافية. ويكون ذلك بالاتفاق على توجهات مشتركة، يترك لكل عضو التصرف في الاستنارة بها. على ان يقع الاتفاق على ضرورة المتابعة لهذه الاجتهادات، لتقييمها وتصحيحها عند الاقتضاء، وتطويرها ـ وكل ذلك من ضرورات الأعمال الحضارية.

ومن أهم ركائز هذا التطوير توجيه العناية الفائقة الى النهوض بمراكز البحث العلمي ـ سواء التابعة منها للدولة أو المجتمع ـ لأنه بذلك يمكن ان تتحرر مجتمعاتنا من ربقة التقليد ومهانة التبعية، فيما تحتاج اليه اقتصاداتها، وما هو ضروري لصيانة مناخها، وما يتطلبه تطوير تنظيماتها التربوية والمجتمعية.

والمسؤولية في بناء مجتمعاتنا لا يمكن ان تلقى على الحكومات وحدها. فكل الهياكل الحيوية في مجتمعاتنا مطالبة بالعمل في هذا الصعيد، كل بوسائله، وكل بمنظار المنزلة التي منها يرى الأمور.

***

والشأن الحضاري، منذ قيام الجامعة، كان غائبا، إلا شيئا قليلا، عن مداولات مجالسها. لكن القمة الأخيرة المنعقدة بتونس احلته في صدارة اولويات المجتمعات العربية، ووضعت معالم الطريق في هذا الاتجاه.

فهل سيكتب لتوجهات هذه القمة ان تؤسس لتحول عميق ومرض من الجميع، بغية النهوض بالطاقات الابداعية، واصلاح ما انخرم منذ حقب، وبناء أسباب الكرامة الإنسانية في مجتمعات امتنا؟

إن كان ذلك مرجحا، فهو ايذان بعهد جديد من حضارتنا العربية الاسلامية.

وهو ايضا ايذان بعهد مزدهر لدولنا، اذ قوة الدول، في هذا العصر، من قوة مجتمعاتها. والمجتمعات تستمد عزتها من العلم، وحسن التنظيم والقدرة على الانتاج.

والقدرة على الانتاج لا ينبغي ان تتصورها مجتمعاتنا بالتقيد بنماذج سالفة ابتدعها غيرها. فذلك مما طواه الماضي. على مجتمعاتنا ان تنزل اجتهاداتها حيث يتولد المستقبل لا حيث يطوى الماضي. لذلك فعليها ان تساهم ـ بكل نصاعة، ودون اي تردد ـ في عولمة الفكر والعلم والتقنية، لتنتزع منها حظها، من دون انتظار لفتات المائدة. فلا قوة لمجتمعاتنا إلا بابتكار مستقبلها. ولا يكون لها ذلك إلا بالمشاركة في صنع مستقبل الانسانية، كعهد امتها، لما اشرقت شمسها.

والنظر الشامل الذي نعتنا به الشأن الحضاري، فهو ـ بالنسبة الى مجتمعاتنا اذا ما كتب لها ان تستيقظ من سباتها ـ اخذ بكل اوصال الزمان، لكن بخاصة ما هو في مخاض الولادة، بل الذي لا يزال في طور الاجنة، في سماء الفكر والبحث والابداع.

فإن كان الاعتراض على ذلك ان على مجتمعاتنا الحفاظ على هويتها، والجواب ان هذه الهوية مهددة اصلا في الوقت الحاضر بالذوبان، بسبب اشكال العجز والانخرام التي اشرنا اليها، ثم اننا نخطئ ان نحن فهمنا الهوية على انها جملة من العناصر المتحجرة. فذلك ايضا يمثل تهديدا لها. الهوية حي ينمو ويتطور، بحرية. الذي يسيء الى الهوية هو اخضاعها، قسرا، لتغيرات لا ترضاها. لكن سنة الحياة ان تكون هوية كل أمة في تنام مستمر، واثراء متواصل لمكوناتها، وصهر دائم لمختلف عناصرها. بذلك حيويتها، وفي ذلك وظيفتها.

هوية الأمة انما هي ارادة ان تكون، وعزيمة منها على ان تختار كيف تكون. ومنذ فجر حضارتنا، كان خيارنا الجمع بين مبادئ تليدة، وقيم طارفة، وطاقات متجددة. على هذا النحو تكون الهوية قوة ابداع، لا عقبة من دون النمو، أو من دون التفتح، أو من دون اللقاء مع سائر الحضارات.

ولأن أمتنا أدركت ذلك، بسعة صدر ورجاحة عقل، فإنها تعايشت، في كرامة وعز، مع سائر الهويات الحضارية. فابتدعت «التعددية الثقافية» قبل الإغريق الذين كانوا يحكمون بالإقصاء على الأمم التي لا تشاركهم الهوية.

***

ولا بد ـ أولا وآخرا ـ من مزيد التأمل في قصة ابن المقفع التي يرويها عن السمكات الثلاث: اعجزها بقيت تهتز وتتخبط، عنفا وجنونا، حتى اخذتها شباك الصياد، وأقل منها عجزا التي، لما رأت الصياد مقبلا، اتخذت الى الهروب سبيلا، ثم الحازمة الكيسة التي تنبأت بالكارثة قبل حدوثها، فاتخذت لنفسها العدة، بالعقل والحكمة وبعد النظر.

* أمين الجامعة العربية السابق

ـ خاص بـ«الشرق الأوسط».