القصار يغيرون التاريخ

TT

تزوج نابليون جوزفين ليتمسح بالارستقراطية، ثم طلقها حين لم تنجب له ولداً يرثه، فأثبت ان الامبراطور كالشحاذ، وان جميع الرجال يفكرون بطريقة واحدة.

وجوزفين في حياة نابليون ليست مجموعة فضائح ولظلظة وحفلات ماجنة ورسائل ملتهبة فحسب، لكنها وجه السعد وورقة الحظ الرابحة، فالمؤرخون يحددون بوادر سقوطه منذ عام 1809 وهو العام الذي طلق فيه الفلاح الكورسيكي الارستقراطية المفلسة بناء على نصيحة مستشاره غير الأمين.

ومناسبة سيرة نابليون بونابرت المسرحية الموسيقية التي تحمل اسمه وتعرض في لندن هذه الأيام، وكلها اسقاطات تاريخية تجعلك تخرج بنتيجة مفادها ان القصار يغيرون التاريخ، فرغم الجنرالات والسياسيين الطوال كانت جميع الأمور تقريباً بيد أقصر اثنين في فرنسا وهما نابليون وتاليران.

والثاني داهية الدواهي، فهو الذي استفاد من الظاهرة النابليونية ليقلم أظافر حكومة المديرين، وحين بدأ نجم نابليون يأفل تركه يغرق واستقل أول باخرة الى بريطانيا ليصور نفسه المدافع الأول والوحيد عن الملكية الفرنسية التي حطم بونابرت تقاليدها وأرادت الارستقراطية الأوروبية اعادتها قبل ان تصل النار الى جميع البيوتات الحاكمة ـ آنذاك ـ في أوروبا.

ولأن المسرحية تريد ان تنجح، ويعرف مؤلفها ومخرجها ان الناس لا يحضرون إلى المسرح لسماع درس في التاريخ السياسي، كانت الحبكة العاطفية في المسرحية أقوى من الحبكة السياسية، فالنساء يردن البكاء على ما جرى لجوزفين حين أبعدها تاليران عن اللوحة لأنها لا تخدم تصوره المستقبلي لفرنسا، وقد كان الدمع المدرار في ذروته حين دخلت الأميرة النمساوية ماري لويز الى مخدع نابليون وخرجت منه جوزفين الى بيت ريفي، وخلال عام كان في القصر طفل وريث ولكن يا لسخرية القدر، فلم يكن عنده ما يرثه.

ألا تذكركم هذه الحبكة التي تكررت تاريخياً في أكثر من مكان وزمان بشاه ايران محمد رضا بهلوي، الذي طلق ثريا وفوزية لينجب وريثا للعرش الشاهنشاهي، فلما ولدت له الشهبانو فرح ديبا الوريث المنتظر طار العرش والامبراطور، وظل القصر ينعى من بناه؟

ومن ايران الى فرنسا يمكن تلمس الخيط المعروف عن الثورات التي تأكل كالقطط ابناءها، ففي مسرحية نابليون قضت المقصلة على الثوار وأعادت فلول الارستقراطية، لذا نرى المقصلة في تلك المسرحية تتحول الى وظيفة كاريكاتورية هي فتح زجاجات الشمبانيا التي أهرقها اعداء الثورة بسخاء وكان تاليران معهم وضدهم، فهو نموذج السياسي الذي لا ينام ولا يترك الظروف تفاجئه بشيء، لذا نراه يمهد لنابليون بعد انتصاراته في النمسا والالب، ونمو اسطورته الشعبية بين الناس الذين صاروا ينادونه حامي فرنسا.

وفي مشهد لا يخلو من دلالة يسبق تتويج نابليون امبراطورا في نوتردام، يهمس تاليران في اذن الجنرال القصير بعدة جمل ويعده بالسلطة المطلقة بشرط ان يحفظ له مكاناً على يمينه كمستشار له، ويقبل نابليون من دون ان يدري أن ذلك الثعلب سيصبح الحاكم الحقيقي لفرنسا ويترك له مهام خوض المعارك حين يكون خارج باريس والتفرغ لتحية الجماهير من شرفة قصر التوليري حين يكون في العاصمة.

ومن المعروف ان نكسة نابليون الحقيقية كانت على أبواب موسكو، وليست في واترلو وحدها، وربما كانت محنته تتلخص في العبارة التي وصفه بها وزيره الكونت مولي حين سئل عنه ـ بعد سقوطه ونفيه طبعاً ـ فقال ان احساسه العام يصل الى حد العبقرية لكن مشكلته انه لا يعرف كيف يفرق بين حدود الممكن، والمستحيل.

وهذه العبارة مقبولة سياسياً فالسياسة فن الممكن لكن بعض القادة الاستثنائيين يحلمون بتحويل المستحيل الى ممكن، ومعظم هؤلاء من قصار القامة، وآخرهم في منطقتنا العاهل الأردني الراحل الملك حسين الذي يدين الأردن ببقائه ككيان سياسي لعبقرية مليكه الراحل الذي جنبه مخاطر خمس حروب وعشرات المؤامرات الداخلية والجوارية.

وفي حالة نابليون كان المد الأوروبي أقوى من قدراته الذاتية والوطنية، وكانت نجمة السعد جوزفين قد طارت من حياته وبذا لم يبق أمامه من الممكنات غير المنفى ثم السم الزعاف، فما أقسى سطوة الممكن على الذين ينذرون أنفسهم لمراودة المستحيل.