الحل البعيد القادم

TT

ضمن المستقبل المنظور في قضية الصراع ـ السلام ـ الفلسطيني العربي ضد اسرائيل سوف تعود علينا دوماً محاور نقاش وتحليل كثيرة لا مهرب منها، مثل: الموقف العربي الاميركي المتبادل مع الادارة الجديدة، ثم تفاعلات السياسة الاسرائيلية سواء كنتيجة للانتخابات الاسبوع القادم او كضرورة لانتخابات اخرى تليها بعد الفشل المحتوم للنهج الاسرائيلي الحالي. المحور الثالث الذي سيفرض نفسه مرة بعد الاخرى يدور حول نجاعة الحلول التي طرحت للان وأهمية البحث عن حلول خلاقة ومفيدة للمستقبل العربي وللسلام.

لقد اتضح الان على مستويات عربية متعددة اننا لم نكن مرتاحين لادارة الرئيس الاميركي السابق كلينتون كونها ابتعدت عن الاسس التي شكلت عملية السلام، وتراجعت عن المواقف الاميركية الثابته تجاه الشرعية وقراراتها، وجنوحها للضغط على الطرف العربي والفلسطيني والسكوت على اساليب القهر والابتزاز الاسرائيلي. المهم الان انه من الحتمي ان تتأثر الادارة الجديدة ببعض نهج الادارة السابقة خصوصاً اذا استمررنا بنفس النهج والخطى القديمة التي ستدعم وتؤدي الى نفس النتائج السلبية السابقة. يمكن تلخيص الامر بسؤال ماذا فعلنا، او سنفعل، مع وتجاه الادارة الجديدة حتى نغير ونصلح من النهج الموروث؟ نفس السؤال ينطبق على اسرائيل ولو من الزاوية المعاكسة كون اليهود عموماً ساندوا المرشح الديمقراطي المنافس للرئيس الحالي بوش،ولديهم مخاوف، وبالتالي فعلوا وسيفعلون الكثير لاستمرار النهج السابق بل تحسينه. نلاحظ ان الاسرائيليين دخلوا على خط الادارة الجديدة فوراً عبر مؤسسات البحث والخزانات الفكرية الاميركية المطعمة باليهود المؤيدين لاسرائيل، وبثوا افكاراً على شكل نصائح للادارة، وعلى شكل اخبار للتأثير في الرأي العام والاعلام وبالتالي فرض الامر الواقع... قالوا (ضمن امور عديدة) ان الادارة الجديدة ستبتعد عن الوضع الشرق اوسطي وتحافظ على علاقات متينة مع اسرائيل، وروجوا ان الادارة غير مصدقة لرغبة الرئيس الفلسطيني في الحل، وارسل شارون عبر وفد نواب اميركي للادارة بأن عرفات يحضر للحرب ( ! )، ونشط اليسار الاسرائيلي هو الاخر بترويج ان القيادة الفلسطينية تطالب بتنازلات لا يمكن لاي حكومة اسرائيلية قبولها. من الواضح ان الهدف الجلي المزدوج هنا هو ارهاب العرب بأن الادارة الجديدة حددت موقفها سلفاً، واقناع الادارة الاميركية بأن «التنازلات الاسرائيلية الكثيرة» تؤدي للمزيد من المطالب الفلسطينية، وبالتالي لا بد من التشدد معهم... وهذا هو محور السياسة الاسرائيلية التي كانت تُبث سابقاً الى كلينتون عبر مستشاريه.

على الطرف العربي اظهرنا الارتياح الشديد لقدوم حزب وادارة جديدين في البيت الابيض، وحدثت اتصالات اولية رسمية على الارجح انها كانت للمجاملة بين الادارة وبعض الدول العربية... ولاننا في اول الطريق فقد يفيد تحديد المطلوب عمله على ضوء مراجعة ذاتية لمواقفنا الرسمية، ودراسة معمقة ( سريعة ) لخلفية ولاحتمالات مواقف الادارة الجديدة، ومن ثم تحديد النهج المطلوب. وفي انتظار ان يتم ذلك في اطره الصحيحة ومن اهل الحل والربط يمكننا هنا فقط طرح العناوين لما يمكن ويجب فعله. لقد ثبت فشل نهج المفاوضات والحلول بعد اوسلو واضرارها بالمصلحة الفلسطينية والعربية سواء من باب انها لم تُنجز ولم تُحسن الظروف، او من باب التنازلات المتتالية التي قدمت والاخرى المطلوبة، وطبعاً ثبت فشل ان يكون هذا النهج سيؤدي للسلام والاستقرار بأي شكل... المطلوب اذا هو العودة للنهج القديم المفهوم من آل بوش، او تحديث منهاج عصري جديد تماماً ( سنتحدث عنه لاحقاً )، ولكن لايمكننا السكوت على النهج الحالي وتوقع، او انتظار، ان تفسره الادارة الجديدة لصالح الطرف الفلسطيني بعد كل العجن والخلط الذي حدث فيه ضمن اسس خاطئة اصلاً. الرئيس بوش لن يكون عربياً اكثر من العرب ليقنعهم بأهمية تغيير نهجهم... علينا ان نؤكد للادارة الجديدة رغبتنا وحاجتنا الملحة للسلام، واستعدادنا لقبول كل ماهو منطقي، ولكن مع حسم الابتعاد عن النهج الحالي لان الاسرائيليين افشلوه ولان افاقه اُعدمت تماماً، وبالتالي الاصرار على السلام ضمن اسس الشرعية الدولية ومؤتمر مدريد ومبدأ استعادة كل الارض المحتلة مقابل الاقرار بالسلام والتعهد به، أي نفس الاسس التي وضعها بوش الاب. علينا ايضاً ومع الابتعاد عن النهج الحالي ان نوضح حجم التنازلات التي اقررنا بها سلفاً بقبول المبادئ المذكورة... رجال السياسة والاعلام الاميركيون يعتقدون ان اسرائيل موجودة من الاف السنوات، ولايفقهون كثيراً التطورات في القرون الماضية... علينا ان لا نخجل من تذكيرهم بالاسس، ومن تذكرنا وإياهم حجم التنازلات المقدمة منا عما كان لنا حتى نصف قرن، وحجم المعاناة التي مررنا بها، وان المطالبة باسترجاع الارض المحتلة ضمن قرار 242 والاصرار على عودة وتعويض اللاجئين ضمن قرار 491 يشكل تنازلاً سيادياً ضخماً بدون حق او منطق عما كان لنا في فلسطين، وأننا مع ذلك على استعداد للسلام والتعايش المتساوي ولا نعترض على ماتقدم اميركا لاسرائيل من ضمانات امنية دون ان تشجعها تلك الضمانات بالعدوان علينا. الادارة الاميركية الجديدة الحالية بمستشاريها القدامى من ادارة بوش الاب، وضمن تجربتها الانتخابية وتحديداً في فلوريدا تعرف تماماً اساليب وقدرات اللوبي اليهودي والاعيب السياسة الاسرائيلية، ولكن الرئيس بوش وطاقمه لن يقدموا على تغيير نهج التفاوض الحالي الا اذا قدمت لهم مواقف عربية وفلسطينية حاسمة ضد الاستمرار ومقرونة بليونة العودة للاسس... واذا لم يتم ذلك عربياً وفلسطينياً، فلا عجب ان تتواصل السياسة الاميركية السابقة وتستمر الدوامة ذاتها ضد المصلحة العربية. عشية الانتخابات الاسرائيلية وما سيليها من الايام هي من الفترات المناسبة امام العرب لاظهار حقيقة الموقف الاسرائيلي غير المحسوم ـ على الاقل ـ تجاه السلام. الكنيست منشق على ذاته، نصفه يرفض سلاماً يعيد الارض المحتلة من حرب حزيران، ناهيك من عودة اللاجئين، ونصفه الاخر يرفض فكرة السلام اصلاً... هذا بينما الجمهور يريد باغلبيته البسيطة سلاماً آمناً ويُفرض عليه الاختيار بين جنرالين لرئاسة الوزراء، ولا احد يدري اصلاً لماذا جاءت هذه الانتخابات هكذا دون منافسة فعلية... الجمهور يريد السلام ولكنه لم يعد يرغب في الجنرال باراك، وقد يصوت للجنرال شارون مع معرفة الناخب واقراره بأن شارون سيقود للحرب. اننا لانستطيع هنا استنتاج ان الاسرائيليين بأغلبيتهم لا يريدون السلام اذا انتخبوا شارون في الاسبوع القادم، وانما الاستنتاج الاقرب للمنطق انهم فقدوا كل ثقة (مثل العرب ومثل اليسار الاسرائيلي) بالجنرال باراك على طريق السلام، ولايظنون ان شارون اسوأ منه... والحقيقة الساطعة ايضاً ان النظام الاسرائيلي بعيد عن الديمقراطية طالما ان البرلمان لا يعكس رأي اغلبية الجمهور، وانتخابات رئيس الوزراء تقدم بديلين مرفوضين من الاغلبية، ولان الجنرال المنتخب سيواجه نفس تركيبة البرلمان الذي أفشل الجنرال السابق. الشلل الذي اصاب الاسرائيليين، وبالتالي اصاب المفاوضات وعملية السلام، يحتاج الى علاج بخضة شديدة من حجم حرب اكتوبر ولكن بشكل سياسي هذه المرة. فعلى ضوء الفشل والشلل، وفي ظل تغيير الادارة الجديدة ووصول هذه الادارة بالذات للبيت الابيض، وفي أجواء عالمية متغيرة الى صالح حقوق الانسان والحلول العادلة ورفض العنصرية والحروب... ضمن ذلك كله يمكن طرح حلول سلمية شمولية تصر على حقوق الانسان الفردية والهوية الاجتماعية وتتنازل عن حق المطالبة بدولة فلسطينية وعن يهودية الدولة الاسرائيلية وذلك لصالح دولة واحده للشعبين ضمن حقوق متساوية تماماً... هذا النهج سيورط الذهن الاسرائيلي في تعامله مع العالم اذا رفضه وكيف يبرر الرفض، بينما سيرفع الانسان الفلسطيني الى درجات سامية من الفكر والتسامح والتحضر. لا يمكننا القول مسبقاً ان اسرائيل سترفض هذا الطرح ولهذا نكف عنه، فهي ترفض ايضاً الانسحاب من كل الضفة والقطاع وحق العودة وتريد الاحتفاظ بتلك الارض، ومع ذلك نباطحها في مفاوضات عدمية تعطيها كل المزايا، فلماذا لا نرميها بهذا السهم؟ يمكنني ان أؤكد بأن خجل مفاوضينا من اثبات فشل اعمالهم هو من الاسباب المهمة للجمود على النهج الحالي، كما ان قيادتنا السياسية لا يمكنها تخيل التنازل عن مطلب الدولة الفلسطينية مهما كان البديل ونتيجة ذلك المطلب، وهكذا ستبقى اسرائيل مرتاحة من خضة سياسية تضعها في بداية الطريق المنطقي الوحيد لاحلال السلام العادل وضمانة استمراره.