الفضيلة الديمقراطية

TT

ينتشر المد الديمقراطي عبر العالم بوتيرة سرعة قياسية ويغنَى بأخلاقيات جديدة يصح اختصارها في تعبير «الفضيلة الديمقراطية».

عندما نشأت الديمقراطية لِتَجتَثَّ الديكتاتورية من جذورها كان قيامها يؤشر إلى بزوغ فجر الفضيلة الديمقراطية المتمثلة في تقويض الحكم الفردي المشخّص، وجَعْلِه حكم المؤسسات التي يملك فيها الشعب السيادة والسلطة.

لكن الديمقراطية رغم هذا المضمون الخلقي النبيل ظلت تتمظهر أكثر في قوالب شكلية، أي وجود مؤسسات تتحكم فيها هي أيضا أوليغارشية تسمي الحاكمين بمن فيهم المنتخَبون، إذ هؤلاء في الحقيقة حفنة محدودة العدد تُغيِّب مدة ولايتها جماهير الشعب وتُحيِّدها عن ممارسة حق الحكم، لأنه لم يكن ممكنا ـ وإلى اليوم ـ أن يحكم الشعب نفسه بنفسه. لذا كان لزاما أن تتخلى الديمقراطية المباشرة المثالية عن دورها لصالح الديمقراطية النيابية الواقعية. وهذا ما جعل النظام الديمقراطي يتسم بطابع الشكلية التي وإن توزع فيها الحكم بين مؤسسات حاكمة، فإن هذه في الحقيقة لا تعدو أن تكون مؤسسات مظهرية لا يُعنى الشعب بشأنها إلا في موسم الاقتراع. وفيما بعده يسود حكم فصائل الشعب محدود العدد الذي يحصره قانون الانتخاب في لائحة الناخبين أو الهيأة الناخبة وهم أقلية في مجموع الشعب، أو يقلِّص بعضَه عندما يقصُر الاقتراعَ على طائفة من الشعب بمحدودية فوارق السن أو الجنس أو القدرة المالية أو قيود الكفاءة الذهنية، مما يتقيد به عادة الاقتراع المحدود censitaire.

ثم ترسخت «الفضيلة الديمقراطية» عندما أصبح الاقتراع عاما universel في معظم العالم بعد النصف الأول من القرن العشرين. ومع ذلك لم يُخرج هذا التقدُم الأساسُ الديمقراطيةَ من شكليتها. أما الخطوة العملاقة فكانت تجاوز الديمقراطية السياسية الشكلية إلى عمق الديمقراطية الاجتماعية الاقتصادية، بإقرار المجتمع الدولي لمواثيق أممية تؤكد على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية التي تهدف لتحقيق عدالة مجتمعية تتكافأ في ظلها فآت الشعب بما يحقق القضاء على التفاوت الطبقي، ويقلص تنامي الفقر، ويتيح المساواة في التمتع بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية كحق التعليم، والعمل، وتوفير الشغل للجميع. وبذلك أصبحت الديمقراطية الحق هي تلك التي تمكن الشعب من ممارسة هذه الحقوق، والديمقراطية السياسية الشكلية مجرد وسيلة لتحقيق غاية الديمقراطية الاجتماعية والاقتصادية.

إن وجود المؤسسات الدستورية وتمتيع الشعوب بحق الاقتراع العام لا يفرضان وجود الديمقراطية الحق. فقد كانت الأنظمة الشمولية تقول عن نفسها إنها ديمقراطية لأنها تتوفر على مؤسسات تفرزها صناديق الاقتراع. ولم يكن للحكم في هذه المؤسسات إلا صبغة الديمقراطية الشكلية المفرغة من محتوى أخلاقيات الفضيلة الديمقراطية. كان النظام الشيوعي يدعي أنه يستهدف من ديمقراطيته الوصولَ من مَعْبَر المساواة إلى مرفأ العدل الذي هو أم الفضائل، وكان النظام الرأسمالي يقول إنه يستهدف الوصول إلى مرفأ المساواة من معبر العدل بتمكين الفرد من حظوظ مشتركة تجعل الأفراد في النهاية متساوين.

ولم ينته القرن العشرون إلا بعد أن تبلور فيه قيام منظومة الفضيلة الديمقراطية التي يمكن اختصارها في سيادة العدل والإنصاف في المجتمعات وإقامة دولة الحق والقانون.

إن الفضيلة الديمقراطية في تفاصيلها مجموعة أخلاقيات يوجد بعضها في تعاليم الديانات السماوية وبعضها نظَّر له الفكر المثالي في مختلف العصور، لكن سرعة تدفق المعلومات بوسائل التكنولوجيا الحديثة خاصة منذ التسعينيات في القرن المنصرم وإلى اليوم، ساعدت منظومة الفضيلة الديمقراطية على التسريع بنشرها عبر المجتمعات.

من بين هذه الأخلاقيات اعتماد الحقيقة بتعميم البحث عنها ونشرها عن طريق الإعلام السريع المتحرر من كل قيد، وبواسطة الحوار الحر الذي يتعدد فيه المتحاورون ويتصارع فيه الرأي مع الرأي الآخر، وتسود فيه الشفافية وهي أيضا احدى أخلاقيات الفضيلة الديمقراطية.

تقضي الفضيلة الديمقراطية بأن لا استثناء ولا اقصاء لأي مضمون من مضامين البحث عن الحقيقة ولا محرم فيه ولا ممنوع، بل كل شيء فيه قابل للطرح للحوار والتفاهم. وهذه الحرية المطلقة تجري في نطاق تعميم الحريات التي لا تقبل الفضيلة الديمقراطية أن توضع عليها القيود أو تمس حرمتها.

الفضيلة الديمقراطية لا تقبل مصادرة الفكر، ولا اغتيال الكلمة. وترفض القمع بجميع أشكاله ولا سيما قمع الفكر. ولا تجيز للحكم أن يمارس سلطة التعسف بمصادرة الصحف أو حجزها، وبالأحرى منعها من الصدور. كما لا تقبل أن يستبد بمقاليد الحكم شخص أو مجموعة أوليغارشية. وتنزع الفضيلة الديمقراطية الشرعية عن كل حكم لا يتساكن مع المعارضة، أو ينزعج من النقد، أو يلجأ إلى طرق ملتوية لحماية نفسه من النقد، أو يقيم حوله من القوانين ما يحرم به الشعب من حق مساءلة الحاكمين ومراقبتهم.

الفضيلة الديمقراطية تجعل من ميثاق حقوق الإنسان واتفاقيات عدم التمييز بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات دستورها الذي لا يعلو فوقه أي قانون وطني داخلي. وهي ترفض كل قضاء عدلي لا يوفر للمتقاضين العدل والانصاف في مساواة كاملة لا يفضُل فيها طرفٌ طرفا آخر، ولا يحتكم فيه القاضي إلا للقانون الذي يجب أن يعلو على هواه ونزوعاته.

وإذا كانت الفضيلة الديمقراطية تزكي وتسند مبدأ تحكيم القضاء في النزاعات كسلطة مستقلة عن مؤسسات السلطة الأخرى، فهي تنتظر من القاضي أن تكون هذه الفضيلة مرجعيته فيما يقضي به ويحكم فيه. وهذا يقتضي أن يتربى القضاة على ثقافة الفضيلة الديمقراطية والتقيد بأخلاقها.

ضمن ما ترفضه الفضيلة الديمقراطية من استبداد الحاكم بالسلطة، ترفض أن يعتبر القاضي استقلاله عن أطراف الحكم الأخرى استبدادا شخصيا بسلطة القضاء. فلسلطة القاضي حدود تقف عند مقتضيات الفضيلة الديمقراطية التي لا حدود لها.

لقد كان لسيادة منظومة الفضيلة على المجتمعات الديمقراطية الفضل في التسارع إلى اكتشاف الفضائح المالية والتلاعب بالمال العمومي ونهب ثروات الدولة ومتابعة مرتكبي هذه الجرائم من لدن القضاء وأخذت أصداء هذه الفضائح تجلجل في فضاءات أوروبا (في فرنسا وألمانيا وإيطاليا مثلا) وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الفليبين والشيلي وأندونيسيا، وفي كل مجتمع تسوده الفضيلة الديمقراطية لأن البحث في هذا المجال الحساس لا تجرؤ عليه أية سلطة في نظم الاستبداد والديكتاتورية. وكلما ترسخت هذه الفضيلة في المجتمعات تسود فضيلة الشفافية والحرص على توفير نزاهة البحث عن الحقيقة. وقد انخرط المغرب في هذه المنظومة بعد أن دشن ملك المغرب جلالة الملك محمد السادس عهدا جديدا ذا محتوى ديمقراطي أصيل وعميق يفوق حدود الشكلية الديمقراطية ليصل إلى درجة الفضيلة الديمقراطية المعزِّزة للحريات، القائمة على الشفافية والوضوح والتي تكفل للباحثين عن الحقيقة الحرية الضرورية للقيام بعملهم النبيل.

وبما تتيحه الفضيلة الديمقراطية المتقصية للحقيقة من شروط لسيادة دولة الحق والقانون وسموها على سائر السلط فإن البحث عن الحقيقة يشمل جميع المسؤولين حتى من هم في قمة الحكم الذين لا يحول وجودهم على رأس الحكم أو سابقية وجودهم فيه دون امتداد البحث الديمقراطي إلى تصرفاتهم وسلوكاتهم.

وفي ظل أخلاقيات الفضيلة الديمقراطية يصبح حكم القضاء الملجأ والملاذ. وهو ما يلقي على رجال القضاء مسؤولية عظمى ينبغي تأهيلهم للقيام بها. ويدخل في طليعة شروط هذا التأهيل أن لا يكون القاضي فقط مجرد ناطق بالحكم، بل أن يتقمص روح الحكم بالانصاف والعدل، معتبرا أن الشعب سيقيِّم حكمه بميزانه العادل الذي لا يخطئ، ليحكم على كل حكم جائر أو ناقص يصدر من القضاة على أنه جور على العدل، وانتقاص من حرمة القضاء. وهو ما يجب أن لا يغفره القضاء للقاضي نفسه.

وفيما يخص نهب ثروات الأمة فإنه لا ينبغي الاكتفاء بمعاقبة من ثبتت عليه هذه التهمة الخطيرة بإصدار اقسى العقوبات بحقه، بل ينبغي أن يعمل القضاء على ارجاع مال الأمة المغتصَب إلى صندوق الدولة حتى لا تضيع الأمة في مدخراتها، وحتى لا يكتسب المال المغتصَب شرعية الغصب بالتقادم.

إن العقاب تربية للمعاقَب واعطاء للمثال عن شخص المعاقَب وهذا عدل. ولكن ليس أقل فائدة منه أن ينصف القضاء الأمة فيرد لها ما خسِرت، ويعيد للخزينة العامة الثروات المغتصَبة ليتحقق بواسطتها الخير والنماء للأمة مالكة المال المغتصَب. وهذا عين الإنصاف.