رغم أنه كسر المحرمات الإسرائيلية إلا أن تناقضات باراك أوصلت شارون إلى الحكم

TT

الاثنان لعبا لعبة التنصل ببراعة. ياسر عرفات لانه لا يريد اللقاء اصلا، فلماذا يلتقي رئيس وزراء لم يبق امامه في السلطة سوى ايام معدودات، لذلك قال ما قاله في كلمته في تجمع دافوس، وتراجع في اليوم التالي، في لقاء ـ نادر ـ مع القناة الثانية للتلفزيون الاسرائيلي، وايهود باراك، تمسك بهجوم دافوس كحجة ليلغي لقاء فيينا، في الوقت الذي يتعرض فيه لضغوط داخلية، ولانه كان يدرك بان عرفات سيرفض، فقرر وهو الراحل، ان يحرم شريكه في السلام ـ غريمه، متعة الرفض. ويستعد الجميع الآن لمجيء ارييل شارون اليميني المتطرف وزعيم الليكود. وحده الرئيس المصري، قرر حسب اعتقاده، ان يحجّم شارون قبل وصوله، ليذكره بدور مصر، خصوصا في العلاقة مع عرفات، فقال ايضا في التلفزيون الاسرائيلي مساء الاثنين الماضي انه لن يتصل بشارون الا اذا قام الاخير بالخطوة الاولى، وقال مبارك: «لدي اتفاقية سلام معكم (اسرائيل)، فهل عليّ ان اتحدث مع شارون؟ اذا احتاج لشيء وجاءني، عندها ارحب به، اما اذا لم يكن في حاجة لشيء، فدعوه حيث هو!».

وعلى هذا رد شارون: «لم اكن افكر في الاتصال به وبالتالي عليه ان لا يقلق من شيء».

بعد ان رحب الزعماء العرب المعنيون، ببنيامين نتنياهو ومن ثم بايهود باراك، ولم ينفع ترحيبهم، ربما قرروا استعمال تكتيك آخر والاستفتاءات تؤكد فوز شارون في رئاسة الوزارة الاسرائيلية.

بعد كل ما ارتكبه في تاريخه، لم يكن شارون نفسه يعتقد انه سيعود الى السلطة وانه سيصل الى رئاسة الوزارة بالذات. لكن، من يتحمل مسؤولية ايصال من يسمونه بـ«البولدوزر» لكثرة ما جرف من قرى وبيوت فلسطينية ليقيم المستوطنات وليمنع اقامة دولة فلسطينية متكاملة ومستقلة؟

يُجمع الكثير من المراقبين السياسيين على ان باراك وفر لشارون هذه الفرصة التاريخية في حياته بعد ان تجاوز السبعين. ورغم ان رقصة التانغو يؤديها شخصان، الا ان شارون مدين في وصوله المرتقب الى باراك، فلو لم يكن الاخير غير كفء سياسيا لما كان في هذا الوضع.

ويقول مصدر اميركي، ان باراك اخطأ منذ البداية في كل شيء، وهذه مأساة، لان نياته كانت حسنة وكانت لديه الشجاعة الكاملة، لكن الشجاعة والذكاء غير كافيين، كانت تنقصه البراعة السياسية، وكل ما قام به سياسيا كان خاطئا، لقد ابعد كل الناس، حلفاءه ومعارضيه.

ويضرب محدثي مثلا عن تناقضات باراك، ويكشف عن الحماقة في تصرفاته، فهو عندما يتحدث الى اليمينيين علناً يقول لهم: لماذا تتذمرون، فأنا لم اعط إنشاً واحداً من الاراضي للفلسطينيين منذ وصولي الى السلطة؟

يقول محدثي: الشخص الجدي في اقتراحاته، لا يمكنه ان يتحدث بهذه الطريقة، لان هذا يحيّر الناس، ولا يعرفون ماذا يريد في النهاية.

«هذا مثل واحد من كثير، لكنه يوضح طريقة باراك، فمن جهة يخطط ويطرح اقتراحات لم يسبق لغيره ان طرحها، وفي الوقت نفسه، يدفع في الاتجاه المعاكس، يوسع المستعمرات ويشق الطرقات، ويقوم بكل الاعمال التي تناقض الاقتراحات.

الذين تابعوه ادركوا ان باراك ليس بالشخص المؤهل للتوصل الى اتفاقيات سلام، فلديه جدول اعمال مختلف تماماً، فهو عندما يقول علناً انه يشعر انه اقرب الى المستوطنين من قربه من اعضاء وزارته من حزب ميريتز، فأي رسالة يوجهها الى الرأي العام الاسرائيلي، ثم ما وقع ذلك على الفلسطينيين؟ ان هذا النوع من التناقض السخيف زعزع ثقة الآخرين به، ولو اخذنا فقط اقتراحاته التي لا سابق لها، فلا يعني هذا ان عرفات سيوقع كما يريد باراك».

من جهة اخرى، يأخذ المراقبون السياسيون على باراك انه اضاع سنة ونصف السنة من فترته من دون ان يجلس مع عرفات، وكان عليه ان يلتقي عرفات عندما تسلم السلطة ويشرح له ما يفكر فيه من اقتراحات ويطلب منه ان يعرض الطريقة التي يجب ان تُطرح الاقتراحات من خلالها ليسهل على عرفات الموافقة عليها. ويرى المراقبون السياسيون، ان السنة ونصف السنة التي مرت قبل كامب ديفيد، كان على باراك وعرفات ان يلتقيا ويطورا وجهات نظرهما، حتى اذا ما وصلا الى كامب ديفيد سهل على عرفات ان يوافق. لكن، كل ما فعله باراك انه اوحى ان لا شيء ممكنا، ثم وصل الى كامب ديفيد وقدم مقترحاته ـ المفاجئة وقال لعرفات: إما ان تقبلها كما هي او ترفضها كلها، ولا مجال للمناقشة.

ولكن، وسط هذه الانتقادات، اليس التأخير افضل من لا شيء؟ ويجيب المصدر الاميركي، هذا صحيح، لكن هناك نقطة اخرى اريد الاشارة اليها، وهي انه وآخرون ارتكبوا غلطة كبرى وهي ربط ظاهرتين، الاولى: مفاوضات السلام نفسها، اي ما يوضع على الطاولة او المضمون.

الثانية، ظاهرة مختلفة تماما، لكن باراك افترض انها مرتبطة بالاولى، وهذه هي الغلطة الكبرى جدا، هو وغيره ارتكبها، وهي: ردة فعل الفلسطينيين ضد الاحتلال. فغضبهم عندما انفجر لم يكن مرتبطا بالمعروض على طاولة المفاوضات، بل كان مرتبطا بالحياة التي يعيشونها، الاغلاق للحواجز العسكرية والاهانات، وكل ما يريدونه هو التخلص من الاحتلال، لكن باراك لم يعالج هذه المسألة الحساسة ابدا، ولم يلتفت اليها.

ويضيف محدثي: يعتقد الكثيرون ان غضب الفلسطينيين والانتفاضة يعودان الى عرفات، وانه عندما قرر ان لا يوافق على المقترحات، حاول ان يحصل على اكثر فدفع الفلسطينيين الى الانتفاضة، قد يكون عرفات اراد فعلا الانتفاضة، لا اعرف. لكن هناك شيئا اكيدا وهو ان الحياة المعيشية للناس لو لم تتدهور وتزداد سوءا منذ اوسلو لما قامت الانتفاضة، ولما كان الناس تظاهروا ونزلوا الى الشوارع بسبب المقترحات التي عُرضت في كامب ديفيد، وما كانت زيارة شارون الى باحة الحرم الشريف الا عذرا. واسأل محدثي: ان الكثير من الاسرائيليين اصيبوا بذعر مما عرضه باراك على عرفات، وفي العدد الاخير من «نيويوركر» قال باراك ما معناه، انه كسّر كل المحرمات في العقلية الاسرائيلية وخصوصا ما يتعلق بالقدس..

ويجيب: هذا صحيح، لقد كسر كل المحرمات، لكن حتى عندما كانت شعبيته تتراجع، فان اغلبية الاسرائيليين ارادت ان يستمر في عملية السلام مع عرفات، وعلى الرغم من الصدمة التي اصابت الاسرائيليين عندما كسر المحرمات، وعلى الرغم من المفاجأة التي صعقتهم، غير انهم ظلوا وبنسبة ستين في المائة يريدونه ان يواصل عملية السلام حسب المقترحات التي طرحها، انها نسبة كبيرة من الاسرائيليين وظلت بعد ان كسر كل المحرمات، لكنه توقف.

واقول لمحدثي: وهل تعتقد لو ان عرفات حاول ان يهدئ الانتفاضة قليلا، كان دفع بباراك الى الالتزام بمقترحاته؟ ويجيب: اعتقد ان عرفات ارتكب الكثير من الحماقات، واحمق تصرف كان، عندما وضع باراك اقتراحاته على الطاولة فقال عرفات: كلا. كان الاحرى به ان يقول: انها اقتراحات لافتة، دعني ادرسها واعود اليك بأفكاري.. بدل ان يقول: خذها، لا يوجد ما نتكلم حوله.. ويضيف المصدر الاميركي: انا أُسلم بان عرفات كان مدمرا في اغلب ما قام به، والقضية ليست ما اذا كان عرفات على صواب او على خطأ. انه وضع بحد ذاته، مثل الطقس في مكان ما في العالم، رديء جدا ولا نستطيع فعل شيء بخصوصه. السؤال هو ماذا نفعل لنتعايش مع هذا الطقس وكيف نبني بيوتنا، واي نوع من الاقتصاد يناسب هذا الطقس الرديء. عرفات هو عرفات، والسؤال: هو كيف على المسؤولين الاسرائيليين التعامل مع ظاهرة اسمها عرفات. نحن في الغرب لا نفكر في مكافأة عرفات، لان المطلوب من اسرائيل ان تتبع سياسة تؤدي الى السلام في ظل هذه الظروف. مشكلة عرفات انه أضر بنفسه دائما وبالقضية الفلسطينية.

ويقول محدثي: ان المشكلة الاساسية، ليست في المساحة التي ستنسحب منها اسرائيل او حتى في ما يتعلق بمستقبل القدس او عودة اللاجئين. القضية الاساسية هي عندما تقرر اسرائيل وتعطي في النهاية اغلبية الضفة الغربية، فهل ان الزعماء الاسرائيليين مهيأون فعلا لرؤية قيام الدولة الفلسطينية؟ هل سيقنع الزعماء الاسرائيليون انفسهم بانه ستكون هناك دولة مستقلة لانه لا يمكن الابقاء على ثلاثة ملايين فلسطيني تحت السيطرة الاسرائيلية؟ ام ان الزعماء الاسرائيليين وافقوا على دولة فلسطينية بالاسم فقط، في حين انهم بالفعل يريدون الاحتفاظ بالسيطرة المطلقة على تلك الارض؟

يقول احمد قريع (ابو علاء) ان اسرائيل عرضت الانسحاب من %96 من الضفة الغربية وان الفلسطينيين رفضوا لانهم يريدون نسبة مائة بالمائة من الارض (...)، لكن محدثي لا يرى ان المشكلة تتعلق بالنسب المئوية انما بأمور اخرى اكثر تعقيدا، فهو يتوقع ان يصل الطرفان الى ايجاد حل حول القدس وحول اللاجئين، لكن حل مشكلة هي نوع من مسألة وجود، اصعب بكثير «ولست متأكدا ما اذا كانوا قادرين على الحل».

ولكن، هل من توضيح لهذا الغموض؟ يقول محدثي: ان لاسرائيل عددا من الشروط التي تريد فرضها، وتمنع بالتالي بروز كيان فلسطيني مستقل.

احد هذه الشروط، انها تريد ان يبقى جيشها ولمدة غير محددة (البعض يقول الى الابد، البعض يقول لمدة عشر سنوات، وآخرون يقولون لاربعين سنة..) في وادي الاردن. وتريد اسرائيل التحكم في نقاط العبور الى الدولة الفلسطينية، من جهة مصر ومن جهة الاردن ومن البحر. وتريد السيطرة الكاملة على المجال الجوي للدولة الفلسطينية، وتريد ان يكون لها حق اتخاذ القرار في حالة بروز طارئ وطني ـ وهي وحدها تقرر دوافع هذه الحالة ـ بان ترسل قواتها من دون اخذ اذن مسبق من الفلسطينيين، الى الدولة الفلسطينية، واخيرا تريد اسرائيل شق شبكة طرقات عبر الدولة الفلسطينية تكون تحت السيادة الاسرائيلية.

الآن، يقول محدثي: انظري وراجعي هذه الشروط، تدركين انها غير معقولة، انها لا تعني ان اسرائيل تتنازل عن سيطرتها على الفلسطينيين وتسمح باقامة دولة فلسطينية مستقلة، انها ببساطة استمرار للسيطرة الاسرائيلية على الاراضي انما بأساليب مختلفة. ولن يقبل الفلسطينيون اطلاقا بهذه الشروط. فأي دولة تسمح لدولة اخرى بادخال قواتها متى شاءت، او ان تقرر عنها من يمكنه ان يدخل عبر حدودها الوطنية.. من هنا، السؤال: متى يدرك الاسرائيليون انه لا يمكنهم الاستمرار في التحكم بجيرانهم؟ فكما انه لا توجد امرأة نصف حامل كذلك لا توجد دولة ذات سيادة نصفية! واسأل محدثي: اذا كانت هذه اقتراحات باراك، فماذا عن شارون الذي لا يريد التنازل عن شيء؟ يقول: لن يحدث شيء او اي محاولة من اجل السلام في ظل شارون. صفر. الامران الوحيدان الممكن ان يحدثا في ظل شارون هما، اولا: اما ان يشكل حكومة مصغرة، وعندها في ظل افضل الظروف، لا يحدث شيء. وفي ظروف سيئة، قد تتراجع الامور على الارض وقد تتسع رقعة الحرب، لكن لا شيء سيحدث على صعيد عملية السلام.

الامر الجيد في ظل هذه الحكومة المصغرة، انها يمكن ان تسقط بسرعة وتؤدي بالتالي الى انتخابات نيابية ايضا، ونتنياهو سيدفع نحو هذا الاتجاه وليس حزب العمل.

ثانيا: قد يشكل حكومة تحالف وطني بمشاركة حزب العمل، الامر الجيد في هذه الحكومة انها لا تسمح بأعمال استفزازية قد تلجأ اليها الحكومة اليمينية المصغرة.

الامر السيئ فيها، انها قد تعيش، ومع هذا لا يحصل اي تقدم اطلاقا على جبهة السلام، لان حكومة وحدة وطنية برئاسة شارون لا يمكن ان تقترح شيئا يمكن للفلسطينيين القبول به كأساس لاستئناف المفاوضات.

ويتوقع محدثي ان تستمر عملية السلام في طريق مسدود ستة اشهر على الاقل، «الطريق المسدود هو الافضل في بعض الظروف، فشارون قد يضغط على الاسرائيليين لعدم اثارة العنف، ولا اعرف اذا كان سينجح، لكن اذا قام الطرف الآخر بعمليات عنف، فمن المؤكد ان ردات فعله ستكون اسوأ مما قام به باراك! ويضيف: «لقد ادرك الفلسطينيون متأخرين ان شارون يشكل خطرا عليهم، فحاولوا مساعدة باراك إن كان في اجتماعات طابا، التي لم تحقق اي تقدم، او في دعوة ياسر عبد ربه الفلسطينيين للتصويت لباراك.. لكن، لن يتغير شيء».