قدر الأكراد في اختيارهم.. بين السيئ والأسوأ

TT

الملف الكردي أعقد من أن يناقش عبر وسائل الاعلام، والتصريحات التي يطلقها بعض زعماء الأكراد تفاقم المشكلة ولا تساعد على حلها، أخص بالذكر هنا تصريحات مسعود برزاني رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني لصحيفة «الحياة» في الاسبوع الماضي، والكلام الأشد منه الذي صدر منه عبر شاشة التلفزيون اللبناني، إذ سمعنا فيه صوت التهديد بالانفصال عاليا، ولغة الإنذار وفرض الشروط صريحة ولا تحتمل اللبس. ولأنني واحد من الذين أيدوا حقوق الأكراد على طول الخط ـ وقادتهم أكثر من يعرف ذلك جيدا ـ فانني أسمح لنفسي بأن أعبر عن القلق إزاء ما قرأت وما سمعت، واثقا من أن المتكلم معهم، ولم يكن عليهم يوما ما، وبالتالي فلا محل لإساءة الظن به، وهذا ما أرجوه على الأقل. وقبل أي دخول في التفاصيل، فانني أسجل أن مظلومية الأكراد ليست محل جدال، وحقهم في أن يعيشوا مواطنين لهم حق الحرية والكرامة، شأنهم في ذلك شأن أي مواطن آخر في أي مجتمع، ذلك أيضا ليس مطروحا لا للمناقشة ولا للاجتهاد، وبعد العذابات التي عانوا منها طيلة العقود التي خلت، والتضحيات الهائلة التي قدموها وهم يدافعون عن كبريائهم ووجودهم، فلا ينبغي أن يتردد أحد في إنصافهم، ليس من قبيل المجاملة أو المنّ، ولكن لان ذلك حق أصيل لهم، وهم الذين وصفتهم ذات مرة بأنهم «شعب الله المحتار»، إزاء ذلك فليس السؤال هو هل يحصلون على تلك الحقوق أم لا، ولكن كيف؟ ونحن نحاول الإجابة لا يفوتنا أن نلاحظ ما يلي:

* ان الزعامات الكردية أبدت استعدادا للتعاون مع أي جهة لتحقيق مرادها، الأمر الذي دفع بعضا منهم الى اقامة علاقات وثيقة مع اسرائيل خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ورغم ان بارزاني أنكر ذلك وقال انه

لا يوجد في كردستان العراق علم لإسرائيل، فان الاسرائيليين والاميركيين يعتبرون الوجود الاسرائيلي في أربيل والسليمانية وغيرهما من المدن الكردية أمرا مسلما به، وقد كان شارون آخر من أكد تلك الحقيقة قبل أيام قليلة، ولم يفتح اولئك الزعماء الأبواب الكردية للمخابرات الاسرائيلية وحدها، ولكنهم كانوا مرحبين أيضا بكل أنشطة المخابرات المركزية الاميركية، وهو ما عد من قبيل الخطوط الحمراء التي أساءت كثيرا الى الأكراد وشوهت صورتهم في الأوساط العراقية والعالم العربي.

* ان تلك الزعامات فقدت أعصابها وتصرفت برعونة في بعض الأحيان، خصوصا حين ردت على قمع النظام البعثي، بإذكاء روح العصبية التي وصلت الى حد اعلان الحرب على العرب ولغتهم، مع ان العروبة عند المسلمين يستدل عليها باللسان وليس العرق أو الجنس، ومن أسف ان حالات الغضب الكردي ترجمت حينا في إنزال اللافتات العربية والإبقاء على الكردية وحدها، كما ترجمت في أحيان أخرى كثيرة الى نفور من العرب وتحامل عليهم، وإذ يتهم المرء صدور مثل هذه الممارسات في أطوار الغضب والرد على القهر البدني والثقافي التي خلت، إلا أن استمرار أجوائها الى الآن يثير القلق ويبعث على الدهشة.

* ان الأحزاب الكردية انتهزت فرصة انهيار النظام العراقي وضعف المؤسسات التي أقامها الاحتلال الاميركي لكي ترفع سقف مطالبها، الى الحد الذي رفعها لاضافة فقرة الى القانون الأساسي تقضي من الناحية العملية بتمكين الأكراد من مصادرة أو نقض أي قرار تقره أغلبية الشعب العراقي، وهو ما أثار الإنزعاج والقلق في مختلف الأوساط العراقية. كما كان محزنا ذلك النص في القانون الاساسي على اخراج الأكراد والتركمان وأحزابهم من الانتماء العربي، رغم ان الجميع يتحدثون بلسان العرب، وذلك بالاشارة فقط الى ان العرب وحدهم جزء من الأمة العربية، وإزاء تواتر الأخبار التي تحدثت عن استيلاء الميليشيات الكردية على كامل أسلحة الفيلقين الرابع والخامس للجيش العراقي، ونقلها الى المخازن الكردية، فان تلك الأخبار ـ إن صحت ـ تفتح الباب لإساءة الظن ولتعمق هذه الفجوة والشك في النوايا بخصوص المستقبل.

* ان الزعامات الكردية شغلت بطموحاتها الخاصة على نحو قد ينذر بعواقب وخيمة للغاية، فقد أقامت تلك الزعامات أوضاعا ومؤسسات أشبه بالمستقلة في شمال العراق منذ اثني عشر عاما ومن ثم تمتع الزعيمان بارزاني وطالباني، رغم الحساسيات المكتومة بينهما، بأوضاع أغرب بإذكاء الطموحات بعيدة المدى، حتى بدا فيها حلم الانفصال والاستقلال قريب المنال، ولكن ذلك الانشغال بالطموحات والاحلام فوت امكانية النظر المدقق في خرائط الواقع الوطني والاقليمي، وبالتالي غيب درجة الرصانة والحكمة المطلوبتين في التعامل مع تلك الخرائط، وهذه نقطة تتطلب تفصيلا ومصارحة.

فحين تتمزق كردستان وتتوزع على أربع دول على الأقل هي: تركيا وايران والعراق وسوريا، فتلك جريمة تاريخية لا ريب، والحل الطبيعي والمنطقي لها ان يصحح ذلك الوضع، بحيث يعطى الأكراد حق تقرير المصير على الأقل، فاذا اختاروا أن تكون لهم دولة مستقلة فلهم ذلك، لأنهم ليسوا أقل شأنا من غيرهم، لكن ذلك حل أمثل يمكن أن يرتب نتائج أسوأ، إذ أن من شأنه أن يحدث انقلابا في خرائط المنطقة، يفتح الباب لحروب وفتن لا يعلم إلا الله مداها، ذلك ان الأكراد في العراق اذا كانوا قد استفادوا من ظروف العراق الخاصة، وحققوا ما حققوه في بناء كيانهم شبه المستقل، فانهم اذا استطاعوا أن يحصلوا على استقلالهم في أجواء ضعف الدولة الحالية، واذا افترضنا جدلا انهم ضموا كركوك الى دولتهم وحلوا مشكلة الوجود التركماني والعرب فيها، فإن ذلك يصعب تكراره في تركيا التي يعيش على أرضها حوالي 13 مليون كردي، ولا ايران التي بها عشرة ملايين كردي، ولا سوريا رغم ان الأكراد فيها لا يتجاوز عددهم مليونين. واذا كانت ايران قد اكتفت بالمراقبة الصامتة، فإن تركيا قالت صراحة ان قيام دولة كردية مستقلة على حدودها سوف يعني نشوب الحرب مباشرة، وبسبب القلة النسبية لعدد الأكراد في سوريا، فإن نظامها سوف يتعامل معهم بطريقته.

في أجواء الانتشار الكردي الراهن، ألغى حزب العمال الكردستاني قراره وقف اطلاق النار في تركيا، وعادت بعض عناصره للاشتباك مع وحدات الجيش التركي، الأمر الذي يعني ان الفتنة بدأت تطل برأسها من جديد هناك، ولن نحتاج الى خيال واسع لكي ندرك ان حديث استقلال الاكراد وانفصالهم عن العراق ـ أكرر ـ يفتح الباب واسعا لشرور وفتن في المنطقة، أخشى ما أخشاه ان تضاعف من عذابات الأكراد ومعاناتهم، ولعلي لا أبالغ اذا قلت انه اذا كان الأكراد قد توزعوا على دول المنطقة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، فان اعادة كردستان الى ما كانت عليه قد يتطلب قيام حرب عالمية ثالثة.

اذا جاز لي ان ألخص النتيجة فقد أقول ان الخيار القائم فيما يخص المسألة الكردية ليس بين خير وشر، ولكنه بين شرين، ذلك ان إبقاء التشرذم الكردي على ما هو عليه الآن أمر سيئ، وشر لا ريب، أما محاولة لم شمل الأكراد في دولة واحدة فإن نتائجها ستكون أسوأ، والشرور التي يترتب عليها سوف تتضاعف.

ان ضمير المرء لا يرضى للأكراد ان يبقوا هكذا الى الأبد، لكن عقله

لا يستطيع أن يستوعب ما يمكن ان يترتب على اقامة دولتهم المستقلة من أضرار وأهوال، ولا أفهم كيف يتجاهل زعماء الأكراد العراقيون الملوحون بالانفصال تلك التداعيات الخطرة.

ان علماء الأصول يتحدثون عن القبول بالضرر الأدنى تجنبا لوقوع ضرر أكبر وأفدح، وأرى ان تلك قاعدة يجب استحضارها في التعامل مع الشأن الكردي، بشرط واحد هو ان يتوافق الجميع على ضرورة احترام حقوق الأكراد في المواطنة الكاملة، وحقهم في الاحتفاظ بهويتهم الخاصة، واذا ما حدث إخلال باستحقاقات ذلك الشرط، فعلى النظام الذي أوقع الخلل أن يتحمل مسؤولية فعلته.