حقيقة التصريحات التي أثارت عاصفة الأيام الأخيرة..!

TT

قيل في الاسبوع الاخير كلام كثير، بعضه محق ويستند الى حيثيات صحيحة وإن هي ليست دقيقة وبعضه جاء عشوائياً ومجرد «تهويش» وأغراضه سياسية، حول الاستعانة بقوات عربية وإقليمية، للمساعدة في السيطرة على الاوضاع الأمنية المتفاقمة في العراق وللتعجيل برحيل القوات الاجنبية المحتلة عن الاراضي العراقية.

ولعل اكثر ما قيل على هذا الصعيد، إن حقاً أو باطلاً، تركز على التصريحات التي أدلى بها العاهل الاردني الملك عبد الله الثاني واشار فيها الى امكانية إرسال قوات اردنية الى العراق من دون الافصاح عما إذا كان إرسال هذه القوات سيأتي في إطار قوات عربية ومن خلال جامعة الدول العربية وعلى غرار القوات التي أرسلت في مطلع عقد الستينات من القرن الماضي الى الكويت أم من خلال القوات المتعددة الجنسيات التي يجري الحديث عنها كصيغة بديلة لقوات التحالف الحالية.

واللافت للنظر ان بعض المعالجات الصحافية والإعلامية والسياسية تعاملت مع تصريحات الملك عبد الله الثاني الآنفة الذكر على طريقة «..لا تقربوا الصلاة» فالذين يستهدفون الموقف الاردني تجاه العراق وتجاه مسائل وقضايا عربية اخرى تقصدوا انتقاء مقطع واحد مما قاله العاهل الاردني فأخرجوه عن سياقه ودفعوه في اتجاهات معاكسة لما هو مقصود، وبهذا فإنهم شوهوا عن قصد الصورة الحقيقية لهذه التصريحات.

لم يقل الملك عبد الله الثاني إننا سنرسل قوات أردنية الى العراق، وإنما قال إننا ندعم الحكومة العراقية المؤقتة بكل ما نملك من إمكانيات حتى تستطيع إنجاز ما وعدت به، وإن الاردن، كما قال العاهل الاردني، لن يتوانى حتى عن إرسال قوات عسكرية الى هذا البلد العربي، للمساهمة في حفظ الأمن وإستقرار الأمور، إذا طلبت منه الحكومة العراقية ذلك.

إن الحديث عن هذه المسألة الحساسة جداً لم يتطرق الى التفصيلات وإنما اكتفى بالعموميات والعاهل الاردني لم يوضح ما إذا كان إرسال قوات اردنية الى العراق، التي لن يكون إرسالها بلا طلب من الحكومة المؤقتة وبالتشاور والاتفاق معها، سيكون في إطار قوات تابعة للجامعة العربية على غرار ما حصل بالنسبة للكويت في مطلع عقد ستينات القرن الماضي أم أنه سيكون في إطار قوات متعددة الجنسيات وبطلب من الامم المتحدة وبالتنسيق معها.

لقد جــرى تشويه كبير لما عناه وأراده الملك عبد الله الثاني، ولعل ما يعـــرفه «المـُحرِّفون» و «المـُشوِّهون»، ولكنهم يتقصدون تجنب ذكره، ان الاردن ليس من الدول التي تأتي البيوت من سطوحها وأنه لا يطمح ولا يطمع بأي نفوذ إقليمي لا في اتجاه الغرب ولا في اتجاه الشرق وإنه يقف في طليعة الرتل العربي المطالب بدور إيجابي للعرب وللجامعة العربية في العراق لتقصير أمد معاناة هذا البلد العربي الشقيق وللتعجيل برحيل القوات الاجنبية عن اراضيه.

هناك دول عربية، من بينها مصر والمملكة العربية السعودية والمغرب، من غير الممكن ان يقدم الاردن على خطوة بهذا الحجم وبهذه الدقة والخطورة بدون التشاور معها للاتفاق على موقف موحد إزاء قضية قومية راهنة ضاغطة، والاردن أساساً كان مع ان لا تحل القضايا العربية مهما كانت شائكة من خلال الاستعانة بقوات أجنبية.

إن للأردن وجهة نظر تجاه المسألة العراقية يتمسك بها ويرى أنها صائبة ويسعى لإقناع عدد من الدول العربية بها وهي أنه إذا أراد العرب تقصير أمد احتلال العراق والتعجيل برحيل القوات الاجنبية فإن عليهم ان يضعوا كل إمكانياتهم العسكرية والسياسية والفنية والإدارية بين يدي الحكومة المؤقتة لتمكينها من تنفيذ ما ألزمت نفسها به ولمساندتها في ضبط الأوضاع الأمنية ليصبح بالإمكان إجراء الانتخابات المقرر إجراؤها في الوقت المحدد ولتنتقل البلاد من مرحلة العواصف والزوابع والدماء والدمار والويلات والأحزان الى مرحلة الاستقرار وحقوق الانسان والديمقراطية والتعددية السياسية.

وهنا ولأن بعض «الخـُبراء» و «المحللين السياسيين» !!، إما لعدم معرفة بحقائق الأمور أو لأنهم تقصدوا صب الحَبِّ في طواحين المعادين للتوجهات الاردنية، قد تطرقوا وهم يتحدثون عن تصريحات الملك عبد الله الثاني المشار إليها لأمور حساسة عراقياً وعربياً وأردنياً أيضاً فإنه لا بد من التأكيد والتشديد على أنه ليس للاردن «أجندة » خاصة في العراق سوى المصالح المشتركة وحسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.

ولهذا فإنه بالإمكان الجزم، استناداً الى حقائق الموقف الاردني والى معلومات لا يرقى إليها الشك، أن مسألة العودة الى النظام الملكي في العراق غير واردة على الإطلاق في أذهان الأردنيين وأن الاردن يرفض التدخل في شؤون الشعب العراقي الشقيق وأنه يصر على ان لهذا الشعب وحده الـحق في اختيار النظام الذي يلائمه وأنه إذا أراد «الملكية» أو «الجمهورية» أو اي صيغة أخرى فهذا شأنه ولا يحق لأي دولة أو جهة الاعتراض على ذلك.

ولمزيد من الدقة فإنه لا بد من التأكيد على ان الاردنيين ما زالوا يعيشون ألم ما جرى في الرابع عشر من يوليو (تموز) عام 1958 وما تعرضت له العائلة المالكة في ذلك اليوم «الأسود» من عنف دموي وسحل في الشوارع لم يوفر لا الاطفال ولا النساء، ولكن ومع ذلك ورغم هذا المغص التاريخي فقد اتبع الاردن سياسة الامر الواقع واعترف بكل أنظمة الانقلابات العسكرية المتلاحقة، وهو الآن يرمي بكل ثقله الى جانب الحكومة المؤقتة ويثق كل الثقة بأنه بإمكان هذا البلد الذي يستحق كل الخير ان يبدأ بداية جديدة وان ينتقل من مخاض العقود الموجعة والمؤلمة الى الاستقرار والهدوء والتنمية والبناء والحريات العامة والديمقراطية والتعددية السياسية.

إن كل هذا قاله الاردن للحكومة المؤقتة الذي تربطه بكل اعضائها وبالرئيس الشاب المقتدر والمؤهل غازي عجيل الياور علاقات ثقة متبادلة قديمة وجديدة، والأردن يعرف ان هذه الحكومة عندما تقول إنها لا تريد أي إسناد أمني أو عسكري من الدول المجاورة فإنها لا تقصده ولا تتحدث عنه.

وبصراحة فإن الحكومة العراقية وهي تتحدث عن هذا الامر وتقول هذا القول فإنها تعني ثلاثاً من الدول المجاورة للعراق التي تعتقد هذه الحكومة ان لها وإن بنسب متفاوتة تطلعات إقليمية في إتجاه العراق وهذه الدول تحديداً هي إيران أولاً وتركيا ثانياً وسوريا بالدرجة الثالثة.

إن العراقيين، حتى بعض الشيعة منهم، لا يريدون أي دورٍ أمني أو عسكري لإيران في بلادهم، نظراً لأن مثل هذا الدور سيخلُّ بالتوازنات الحالية في العراق وسيدفع دولاً مجاورة اخرى من بينها سوريا الى البحث عن دور لها في الساحة العراقية.

ولمزيد من الصراحة والإيضاح، فإن الشيعة، الذين يخشون من أن يؤدي التدخل العسكري الإيراني الى تغليب «مرجعية» على «مرجعية» اخرى وتقوية حزب شيعي على حزب شيعي آخر، يرفضون هذا التدخل، وان السنة أكثر ما يخشونه هو أيضاً هذا التدخل، وان الأكراد لهم مآخذهم الكثيرة على إعطاء الإيرانيين أي دور في العراق ومهما كان حجمه.

وبالطبع فإن هؤلاء الاكراد ومثلهم الشيعة أيضاً لديهم استعداد لمواجهة أي دور تركي بقوة السلاح وذلك في حين ان معظم الاحزاب العراقية تخشى من ان التدخل السوري العسكري والأمني سيؤدي الى إنعاش حزب البعث تنظيمياً وسياسياً وسيدفعه الى التفكير بالانقلابات العسكرية مجدداً والعودة الى حكم العراق من جديد.

ولذلك وبعد هذا الاستعراض كله فإنه يمكن الجزم بأن التحفظات العراقية على دول الجوار المحاددة لا تستهدف الاردن ولا المملكة العربية السعودية ولا الكويت، هذا مع ان هذه الدول الثلاث بما فيها المملكة الاردنية الهاشمية لا تتطلع الى أي دور أمني أو عسكري في العراق ما لم يكن بالتنسيق والتفاهم مع الحكومة المؤقتة وبشرط ان لا يؤدي الى أي احتكاكات إقليمية في المنطقة.