ما المانع لو عدّلنا الآية المقلوبة..؟!

TT

سألت المذيعة المحَّلِل النفسي عن قراءته لتعبيرات وإيماءات صدام حسين أثناء محاكمته، فتكلم الرجل وعاد وزاد في كلامه عن الفرق بين رئيس الأمس وأسير اليوم، ولكنه أبداً لم يستطع أن ينفي أن ما حدث لهذا المخلوق في حياته كان حريا به أن يقضي على صاحبه، وحين استفسرت المذيعة عن سر هذا التماسك، أجاب المحَّلِل بعبارة تحمل السر معها: «لقد تعود على ذلك»..نعم، هذا هو مربط الفرس! فكل امرئ جارٍ على ما تعودَ عليه، فأخلاقنا هي مجموعة من العادات والسلوكيات الانعكاسية الأولى التي غُرست في نفوسنا منذ الطفولة، وقد يبدأ تفوق الصغير عادة في مدرسته حتى إذا شب لم يعرف غير النجاح منزلة وإن كلفته وقتاً وصبراً وتكراراً، وقد يكون الفشل أيضاً عادة، لأن الصبي منذ البدايات قد استمرأ العجز والقبول بأقل الدرجات التي تجيز له العبور، حتى إذا صار رجلاً رأيته قابعاً في أحد الأركان يمارس الشيخوخة في وضح النهار، ثم لا يرَى خطأ في بلوغها قبل أوانها بثلاثين عاماً على الأقل، ولا أدري من أعزّي، من كانت الزوايا المهملة حاله! أيكون الأهل الذين ابتلاهم الله بعالة لا تُبقي ولا تذر! أم الوطن وقد انضم إليه من لا يزيد في قيمته عن الرقم الذي يحمله في حساب المجموع!

ونستطيع أن نقول إن الوسيلة لتكوين العادة هي العمل نفسه، فـ«كما نعمل نكون»، فإن شئنا أن نكون أبراراً، يجب أن نحرص على عمل الخير، لأن ما نشعر به وما قد يصلنا من عائد معنوي عند تأدية أفعال المروءة إنما يصبح جزءاً من أخلاقنا، لا نقدر أن نتخلص منه وإن حاولنا، فقد يأتي دهر على الإنسان يود فيه أن ينفرد بأنانيته عن المجتمع، ظناً منه أن أخلاقياته النبيلة لم يعد لها سوق يقدرها، ثم تراه فجأة وبدون مقدمات وقد هب لنجدة هذا أو ذاك، يخالجه احساس باطني بالسعادة والرضا عن نفسه، وكذا الشأن في كل ما نعمل ونؤدي، فعادات الفتى بعض من طباعه، وصدق رسول الله صلوات الله وسلامه عليه حين قال:«تعوّدوا الخير فإن الخير عادة والشر لجاجة».

أمّا إذا ابتلي الإنسان بنشأة افتقد فيها القدوة والتوجيه، فهنا تكون المهمة أصعب بلا شك من ذاك الذي تأصلت فيه أخلاق الفرسان بحكم تربيته، ومع هذا، فلا عذر لمعتذر ولا حجة لمختلف في أن الإنسان إذا ما تقدمت به السنون فتأمل حاله، فوجد أن بوصلته الداخلية لا تفتأ تميل، فلا يعرف لها ثبات، بل وكم من مرة جنحت بمركبه حتى أوشك على الغرق، أقول إذا اختبر المرء نفسه والحياة فعلم أن بوصلته تحتاج إلى ضبط، فأهمل حتى فلت عيارها، فمن تراه اللائم والملوم هنا! لن تكون الإرادة بأي حال فكم من زمن أغفل فيه دورها. ولا أعلم لم يُستهان بمفعولها وهي الدواء لكل داء، فما ضاقت على عزم سبيل، وما على متجرع إلاّ بتعويد النفس على الوصول إلى حال الوسط، فلا نقصان من جهة الإفراط ولا زيادة في جهة التفريط، وكلما وجد نفسه وقد مالت إلى جانب عوّدها أن تميل إلى الجانب الآخر، فلا يزال المرء يفعل ذلك حتى يبلغ الوسط أو يقاربه، فإذا أراد أن يتحقق من أنه على الوسط الصحيح فعليه أن يراقب نفسه، حتى تصبح سهولة الفعل إلى هذا الجانب أو ذاك على السواء بالنسبة له، فلا يتلذذ إذا انحرف إلى جهة اللذة، ولا يشعر بالحرمان إذا زاد في الجهة المقابلة. وبما أن اللذات أنواع، منها ما يتبع المحسوس، ومنها ما يتبع المفهوم مثل الرئاسة والغلبة، ومنها ما كان عاجلاً ومنها ما كان آجلاً، فيجب التمييز فيما بينها لنتحمل الأذى في العاجل في سبيل اللذة في الآجل، ومن كانت هذه صفته فهو حر لا تلاحقه الشهوات، أو لنكن أكثر منطقية ونقل إن من يتمتع بقوة العزيمة تراه يستطيع أن يملك معها نفسه بكل ضعفها ونواقصها.

ومن ذا الذي لا يحب أن يرقى بشخصه! أو يوصف بالإنسان الناضج! إن للنضج عوامل خارجية كما له حقائق داخلية يُعرف بها، واجتماع بعض من هذه وأخرى من تلك يحصل معه الارتقاء، وأفضل الأشياء ما هو وسيلة إليه، فكل ما حولنا في طريقه إلى التغيير، وإنسان اليوم غير ما كان عليه بالأمس، وغير ما سيكون عليه في الغد، فإن حصل التطور المواكب، الذي يعني في النهاية الارتفاع بالمجتمع إلى إنسانية أفضل في معاملات أفراده وأخلاقياتهم، ثم توافق هذا الاهتمام بالحرص على الوجه الآخر من العملة: العوامل النفسية لضمنا أن نعيش في دنيا يحكمها العقلاء الأخيار. أكثير على المرء أن يربّي نفسه حتى يكون إنسانيا! أن يضع عقله فوق غريزته! ونحن إذ ندعو إلى التطور المفضي إلى نضج صاحبه، لا نقترب معه من منطقة الحلال والحرام، وإنما هو الخروج من بوتقة الصغائر، والتخلص من التفكير الطفولي، والتيقن بأن التفاوت بين البشر شأن لا حيلة لنا به، ولكن تنمية إمكاناتنا أمر نمسك بزمامه لو أردنا، وكما أن للوسط الذي نحياه أثراً في تعيين اتجاهاتنا الأخلاقية وأمزجتنا النفسية، فكذا من حقنا أن نؤمن بالقدرة على تحريكه نحو الوجهة التي فيها خلاصنا وصلاحنا.

لابن حزم الأندلسي رسالة في الأخلاق بعنوان «رسالة في مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل»، يقول فيها إن الطمع هو المحرك الرئيس للإنسان في طلبه للذة التي يسعى للحصول عليها، وبما أن كل لذة تُطلب، وكل أمل نتمسك به مآله الزوال في يوم ما، فإن الحالة التي تلازم الإنسان هي «الهم» بسبب فقدان هذا الشيء أو الخوف من فقدانه، فيعيش المرء ولا هم له سوى «طرد الهم»، فتارة يسعى وراء المال طرداً لهم الفقر أو نقصان عائده إذا أصبح من أصحاب الأرقام، وتارة يطلب اللذات لطرد هم فوتها، وهكذا لا يهدأ له بال حتى ينتهي به الأجل.

وما نريد التنبيه إليه في هذه اللفتة أن التعّود على فعل الأمر قد يقود إلى المرام. هذا صحيح، ولكن الحب والاقتناع بهذا الفعل أهم من النجاح في بلوغه، فسيف الخوف المسلط على رقاب العباد قد يحول دون استمتاعهم بما يحصلون عليه، وخوف انتهاء الأوقات الحلوة يفسد على المرء التمتع بها، فهو وإن عّود نفسه على السعادة كما ورد في إجابة أحدهم وقد بلغ من العمر عتيا، حين سئل عن السعادة! فأجاب:«بأن تعوّد نفسك أن تكون سعيداً»، أقول فإن وصول المرء إلى قمة ما بغي فقد لا يشعر به ولا بقيمته لأن هاجسه مشغول بطرد الهم الذي أصبح همه.

قد تكون اختياراتنا في الحياة محدودة، وقد نمشي في طريق لأنه قد فُرض علينا بنحو أو بآخر، وقد نتحّدى الظروف المفروضة فنتفوق عليها، ولكن الأعظم من هذا المشوار الطويل ألا نخسر أنفسنا، فلا نصنع منها آلة تمشي على الأرض، ولا يتحول تعويدنا لها إلى مرارة نتجرعها كل صباح، والتمام إن لم يكن ممكناً فإن الاقتراب منه ممكن، ورحلة الوصول فيها من الجمال ما يستحق أن نلتفت إليه بقلوب مؤمنة، فما يدرينا فقد لا نجد مثيله متى وقف قطارنا في المحطة. وآخيراً، كما تعوّد المجرم أن يكون مجرماً، فليتعود غيره أن يكون في الصلاح كبيراً، أياً كان مكانه، ولينظر ماذا سيجني، وليكن صبوراً، فإن كان احترامه لذاته هو الثمرة لهذا السمو فكفى به مصيرا، فأنت وما تعّود نفسك عليه! فاختر ما تشاء، ولكن لا تنس.. إنه اختيارك.