تعثر المشروع الإصلاحي السوري

TT

تتداول العامة في سورية مقولة جرى استحداثها شعبياً لتلخيص موقف نقدي عفوي من أداء حكومة المهندس محمد ناجي العطري، التي لم تكمل عامها الاول بعد. فتسمع من يقول: «ما بتعرف قيمة ميرو لتشوف غيرو»!

ومعروف أن محمد مصطفى ميرو رأس الحكومة السورية لفترتين متتاليتن بين العام 1999 والعام 2003 وأقيلت حكومته الثانية على وقع نقد لاذع يعاد إنتاجه الآن لتقييم عمل الحكومة الحالية ويبشر ربما بتعديل - أو تغيير - وشيك (البعض يتحدث عن أيام والبعض الآخر عن أسابيع).

وتغيير أو تعديل الحكومة هو اعتراف علني بتعثر عملها وفشل بعض وزرائها في القيام بواجباتهم والمهام التي كلفوا بها. ومعروف أن سورية منذ تسلم الرئيس بشار الاسد مهامه الدستورية قبل أربع سنوات ترفع لواء الإصلاح الاقتصادي، الأمر الذي يجعل عمل هذه الحكومة أو أية حكومة أخرى يتمحور حول العملية الإصلاحية.

ويبدو أن هذه العملية تواجه صعوبات جدية يمكن تلمسها من خلال الفجوة الظاهرة بين حزمة المراسيم والتوجهات الرئاسية وأدوات التنفيذ، التي تشكل الحكومة عمادها الأساسي. لقد أصدر الرئيس السوري خلال السنوات الأربع الماضية عشرات المراسيم من أجل إصلاح الاقتصاد وإطلاق ديناميكية جديدة في العمل العام لكن التنفيذ كان متواضعاً. وتعكس هذه الحالة حقيقة المشكلة التي تعاني منها البلاد، والمتمثلة في شخصنة الحل وغياب المنهج المؤسسي في عمل الحكومة، التي تفتقد بالأساس للانسجام والرؤى المشتركة، ويمكن الاستدلال على ذلك من ثنائية وزيري المال والاقتصاد. فالأول عضو في قيادة الحزب، طامح في رئاسة الحكومة ويدافع عن الاقتصاد الشمولي. أما الثاني فشخصية مستقلة، موظف سابق في البنك الدولي ويؤمن باقتصاد السوق!

وبالإشارة إلى الود المفقود بين الاثنين يمكن الاستنتاج بأن عمل الفريق الاقتصادي في الحكومة السورية يشبه الدوران في حلقة مفرغة. في موازاة ذلك لا يحتاج المراقب لسرد وقائع مشابهة في ثنائية وزارتي الخارجية والمغتربين. أما الإعلام، فهو حكاية بحد ذاته!

وفوق هذا، نجد ان بعض الوزراء رهائن لأفكار رهط من المستشارين من الذين يقدمون الوصفات الجاهزة المجربة في أكثر من وزارة سابقة ثبتت الرؤية بفشلها المبين، في حين ان الناس ينتظرون عند المنعطف الحلول السحرية التي لن تأتي بهذه الطريقة أبداً.

إذن، لا إصلاح من غير إصلاحيين. ولا تغيير من غير رجال يؤمنون به ويعرفون الطريق إلى تنفيذه. لكن واقع الحال غير ذلك، لأن الفريق التنفيذي (هل هو فريق؟) ينقسم إلى مجموعات:

المجموعة الأولى: لا تريد الإصلاح، لأنه يهدد مصالحها الخاصة.

المجموعة الثانية: لا تعرف الإصلاح، ولم تخضع لدورات أو تجارب جدية في العمل على تنفيذ التوجهات الجديدة.

المجموعة الثالثة: تحاول الإصلاح وتريده وتعمل على إنجاحه بكل السبل ولكنها تتعرض للتشكيك من المجموعة الأولى المسلحة بحزمة من القرارات والتعليمات (الإيضاحية)!

وثمة سؤال يطل من نافذة هذا الملف: هل تعمل الحكومة، أية حكومة، من غير وصاية ورقابة الحزب؟

بالتأكيد لا، لأن الحزب ـ وهو القائد في الدولة والمجتمع بحسب الدستورـ يكاد يكون حاضراً في كل تفصيل. وقيادة الحزب التي بيدها الحل والربط والتقييم والترفيع والترحيل (!) مسؤولة عن عمل الحكومة وعن أدائها، فهي التي ترشح الوزراء، وهي توافق، أو لا توافق، على تسمية هذا المحافظ أو ذاك، هذا المدير العام أو ذاك، وهي التي ـ كما يبدو ـ لا تريد أن تتذكر أنها أصدرت قبل عام قراراً ينص على ترك السلطة التنفيذية لأهلها!

وأعضاء قيادة الحزب، وبعضهم مستمر في منصبه منذ أكثر من ربع قرن يعرفون في كل شيء، في العلوم، البيئة، الصحة، الصحافة، الاقتصاد الشمولي، الاقتصاد الحر، الخدمات، الايديولوجيا، وفي السياسات الداخلية والخارجية.

انهم يعرفون ما هو نافع وما هو ضار، ولذلك لا يمكن النظر إلى أداء الحكومة المتعثر بمعزل عن تأثيرات قيادة الحزب عليها، حتى لو كانت هذه القيادة مشغولة بإصلاح من نوع آخر، إصلاح حزب البعث العربي الاشتراكي.

ونظرة عاجلة على عملية إصلاح الحزب تؤكد الاستنتاج بأن لا إصلاح من غير إصلاحيين ايضا. وفي هذا الإطار نشير سريعاً إلى أن عملية إصلاح الحزب وقعت في المطب ذاته، مطب «الأداء»، فقد شكلت القيادة أربع لجان لدراسة أهداف الحزب والبناء التنظيمي الذي يعتمده: لجنة لدارسة موضوع الوحدة. واخرى لدراسة موضوع الحرية. وثالثة لدراسة موضوع الاشتراكية. والرابعة لدراسة الموضوع التنظيمي. ومع أن بين أعضاء اللجان خبرات ذات سمعة طيبة، إلا أن المشكلة هنا ليست في أعضاء اللجان بل في الموضوعات المطروحة للنقاش، وكأن أهداف الحزب مختلف عليها!

ويعتقد متابعون للشأن السوري أن ما يجب أن يطرح كمدخل لعملية الإصلاح الحزبي هو دارسة الأداء والممارسة، أي أن تشكل القيادة الحزبية اللجنة الخامسة ـ أو الأولى ـ لدارسة هذا الملف عبر طرح اسئلة جدية، مثل:

كيف كان أداء قيادة الحزب في مواكبتها للعملية الإصلاحية؟ ولماذا غابت الديمقراطية عن الحزب أكثر من ربع قرن؟ وكيف جرى تجويف الحزب من الداخل عبر سياسة الإقصاء التي مارسها بعض المسؤولين الحزبيين ضد «رفاقهم» من كوادر الحزب ومثقفيه، كي لا ينافسونهم على مناصبهم وعلى الامتيازات التي يتمتعون فيها؟ ومن المسؤول عن جعل الحزبي «سوبر مان» يحق له ما لا يحق لسواه في وطن يتساوى أمام القانون أبناؤه كافة؟

لقد أفرزت الممارسات السياسية الخاطئة نظام مصالح خاصة تراكم عبر السنوات، وأفرز هيكليته وثقافته من داخله، وتحول مع الوقت إلى ما يشبه «العرف». ومن الواضح ان نظام المصالح هذا شكل، وما يزال يشكل، العثرة الأكبر في وجه المشروع الإصلاحي السوري.

* إعلامي سوري ومدير عام مجموعة الاعلام المستقلة في دمشق