الميدالية الذهبية

TT

قال لي أحدهم: لماذا لا تنشر مذكراتك يا مشعل؟! قلت له: ليه أنت فاكرني تشرشل، والاّ مونتي غومري، والاّ رومل. فقال لي: ومن يكون هؤلاء الذين ذكرتهم؟! قلت له: إنهم لا يعجبونني، ولكنهم ابلوا بالصمود وبالقتل بلاء حسناً، ويا ليتك كنت في زمانهم، خصوصاً في الخطوط الأمامية.. ضحك بطرف شدقه (المعرفط)، واحلف انه لم يفهم كلامي، مثلما أنا لم افهم ضحكته البائخة.

وقبل أن يعاود سؤالي بادرته لكي أسد حنكه، وقلت له: يا عزيزي، إنني امرؤ ـ أي إنسان ـ له لسان وشفتان، ومن المشكوك فيه أن اهتدي إلى النجدين ـ اكرر أنني إنسان متواضع إلى ابعد الحدود، واحمد الله أنني لم اصل بعد إلى أن أكون (وضيعاً) ـ وبعضكم يعرفون هذه الكلمة ومارسوها بكل تفوق ونذالة.. الحمد لله أني ما زلت اسقي نفسي بنفسي، وامضغ الطعام جيداً، خصوصاً (الشوربة)، وابتهل إلى المولى جل شأنه أن يكلأ عيني في كل صباح ومساء، بمن يشرح صدري ويرفه عني، ويمدني بمصباح «علاء الدين»، لأملأ الدنيا (عدلاً وجوراً)، واجعل أقدام عارضات الأزياء تتحول بقدرة قادر إلى حوافر حمير، واجعل الناس جميعهم يسيرون للخلف ووجوههم على الدوام إلى الأمام، وكلهم يضحكون بلا أسنان، ويبكون بدون دموع، ويذبحون بعضهم بعضاً بدون دماء ولا ألم.. ويدخلون مخادعهم بدون (بجامات) ولا قمصان نوم، ويتقلبون في مفارشهم بدون أي أعضاء، ويحلمون أنهم قطط عمياء لم تفطم بعد.

قلت له وما أقل وأكثر ما قلت: يا فلان يا ابن زعطان.. دعني وشأني (يا قليل البركة)، فأنا أقف بكل جدارة على هامش الحياة لكي (أتفرج) فقط في خلق الله.. فحياتي هذه التي تراها الآن ما هي بالنسبة لي سوى (زفرة عاشق) أتى إلى هذه الدنيا لكي (يلملم حوائجه) فقط ثم يرحل، ولكي يسلم ويودع في نفس الوقت على من قبلته مرغمة على أن يكون حبيبنا.

يا أخي يا فلان: لا تقلّب مواجعي، لأنني لا أريد أن أتوجع أكثر، أريد أن أفرح بقدر ما أستطيع حتى ولو لدقائق معدودة، فليس لدي أي أمجاد، أو انتصارات، أو ادعاءات، أو مفرقعات.. إنني يا أخي مغرم فقط بلمس جراح الآخرين لكي أتأكد أن الحياة ظالمة، ومغرم أكثر وأكثر بالذود عن (محارم) الإنسان المنتهك حتى لو كان عارياً في أدغال غابات (الأمازون).. لا أكتب من أجل الكتابة، لكنني أكتب من أجل البكاء، نعم أنني اضحك باكياً، وأبكي ضاحكاً، واقلب رأسي التعبان المتصدع بين نجوم السماء وتراب الأرض دون سؤال أو جواب أو حتى (لفتة نظر).

حياتي هذه التي تعد على أصابع الأيدي والأرجل، يا ليتها كانت على عدد حبات رمل الشواطئ التي تشمست وتقلبت عليها كل حسناوات الدنيا عبر تعاقب العصور.. فأين ذهبن تلك الحسناوات اللواتي كانت ألوانهن بلون (البرنزاج)، ثم تحولن بين ليلة وضحاها إلى هياكل عظمية ارتعب أنا شخصياً من لمسة عظمة الرأس أو الفخذ أو الحوض، وأنا الشجاع المشهود له والحائز على الميدالية الذهبية في هذا الشرف الذي لا ادعيه.. يا أخي الذي كرهت هذا المسمّى من كثرة ما رددته اليوم، اتركني وشأني مع أوراقي، ومرسمتي، ومزاجي الطائش، لأنني هذه الليلة بالذات مقدم على ما لا (تحمد عقباه) .. والله يستر.