قريبا: بؤر وسياقات جديدة لمسارات الشؤون الدولية

TT

عندما يجري تدوين هذه الحقب، فإن الأحداث البارزة في الوقت الراهن ـ مسألة العراق والجدل الذي أثارته ـ ستكون اقل ظهورا مقارنة بأحداث وتطورات دولية اخرى خلال هذه الفترة. فبؤرة الاهتمام فيما يتعلق بالشؤون الدولية قيد التحول الآن صوب دول منطقة المحيط الهادي، فضلا عن ان كل الاطراف الرئيسية في المسرح العالمي تحاول الآن تحديد أدوار جديدة لها.

هذا التحول يرتبط بالمفاهيم بقدر ارتباطه بالسلطة ايضا. فالعلاقات مع اوروبا تعتبرا نموذجا بارزا. ولا شك في ان الخلافات التي حدثت بين الدول بشأن مسألة العراق تعتبر جدية وجوهرية، رغم سعي الطرفين الى تضييق شقة الخلاف. إلا أن السبب الرئيسي ذو طبيعة بنيوية بل وفلسفية، والاشارة هنا للتآكل المستمر الذي يعتري الدولة القومية في اوروبا، التي كانت في الأصل اساسا للسياسة الدولية ومركزا للولاءات والانتماءات السياسية. والقادة الاوروبيون يقضون المزيد من الوقت في مناقشة القضايا ذات الصلة بتوحيد اوروبا اكثر من أي قضايا اخرى. هذه القضايا لا تشتمل فحسب على الدبلوماسية، وإنما تضم ايضا ترتيبات دستورية تقتصر على فئة قليلة. وبما ان التنافس التاريخي في اوروبا تحول الى إجماع محلي، فإن الدبلوماسيين الاوروبيين يسعون الى تطبيق تجربتهم المحلية الجديدة على الساحة الدولية، ويصرون على ان استخدام القوة يكون شرعيا فقط اذا صادق عليه مجلس الأمن.

وفي المقابل ظلت الولايات المتحدة دولة قومية تقليدية تصر على حرية اتخاذ الخطوة التي تراها مناسبة. وعلى الرغم من ان اوروبا تقبل ثقافة البوب الاميركية لكنها تعتبر نفسها وعلى نحو لا إرادي اقرب الى اشياء ليست اميركية. وفي غياب تعريف حتى الآن لمصالح الدولة القومية في اوروبا، فإن المواقف الاوروبية تجاه العلاقات الدولية باتت تشكل ملمحا اساسيا وتحتل مساحة معتبرة في الرأي العام الاوروبي. هذه التطورات جعلت خبراء العلاقات بين الولايات المتحدة والقارة الاوروبية يشعرون بالقلق ازاء ما ستصبح المواقف الاوروبية متوافقة مع تجربة دولة تدفعها مفاهيم ومبادئ الدولة القومية او مفاهيم التحالف بصورته التقليدية.

تكمن المفارقة في ان توسيع الشقة بين اميركا واوروبا في بعض الجوانب يحدث في وقت تحولت فيه بؤرة الاهتمام ومركز الجذب فيما يتعلق بالسياسة الدولية باتجاه قارة آسيا، حيث العلاقات اقبل توترا وميلا للمواجهة. فدول مثل روسيا والصين واليابان والهند لا تزال تنظر الى الدولة بنفس الطريقة التي تنظر بها الولايات المتحدة الى مفهوم الدولة، أي على النحو الذي كانت تنظر به اوروبا الى مفهوم الدولة قبل الحرب العالمية الثانية. علم السياسة الطبيعية لدى هؤلاء يعتبر اساسا لتحليلهم على الصعيد الداخلي وما يتخذونه من خطوات على الصعيد الخارجي. كما ان مفهوم المصلحة القومية لا يزال يوحد ويجمع بين الرأي العام ورأي القيادة، فضلا عن ان توازن القوى يؤثر على حساباتهم، وعلى وجه الخصوص في علاقاتهم مع بعضهم بعضا.

وبسبب التقارب في مفهوم المصلحة القومية بين كل من روسيا والصين والهند واليابان من جهة والولايات المتحدة من الجهة الاخرى، فإن علاقات واشنطن مع هذه الدول تعتبر اقل توترا مقارنة بعلاقتها مع بعض الدول الحليفة لها. وعلى الرغم من ان هذه الدول ترفض ما تعتبره نوعا من الهيمنة في السياسة الاميركية، فإنهم يتعاملون مع هذا الامر على اساس النظر الى كل حالة على حدة من خلال الدبلوماسية التقليدية وغالبا ما تفضل الحوار الاستراتيجي على اختبار النوايا.

واذا حاولنا تناول روسيا، في سياق التحول الذي اشرت اليه سابقا، فإنها تواجه الآن خيارات صعبة. فهي قد شرعت في إعادة النظر في علاقاتها على اساس علاقاتها بالجمهوريات السابقة، خصوصا الى الغرب والجنوب، فضلا عن قربها الجغرافي من الصين والخلو النسبي لفضائها السايبيري ومستقبل موارد الطاقة في آسيا الوسطى. وفي هذا السياق يمكن القول ان بوسع الولايات المتحدة لعب دور بناء بإقامة حوار دائم يضع اعتبارا لمخاوف روسيا واهتماماتها.

اما ظهور الصين كقوة عظمى محتملة، فقد اصبح مسبقا عنصرا رئيسيا في تحول بؤرة الاهتمام الدولي صوب آسيا. ما يبدو واضحا هو ان الصين قد توصلت الى قرار يجنح الى الالتزام بفترة تعاون ممتدة. إلا ان هذه الفرصة يجب ان تستغل في الارتقاء بالعلاقات الى ما هو ابعد من الجانب التكتيكي مع تشجيع حس التوافق بين الاغراض والمصالح الطويلة المدى بين الولايات المتحدة والصين.

ما يمكن قوله هنا هو ان قضية الاسلحة النووية في كوريا الشمالية يعتبر مثالا على الحاجة الى نهج طويل الأمد. فعلى احد المستويات جرى التعامل مع هذه القضية كونها مشكلة حد من التسلح تسببت فيها دولة مارقة واصبح الأمر بالتالي قضية تتعلق بكوريا الشمالية والولايات المتحدة فقط، إلا ان التوصل الى حل جذري يتطلب معالجة اكثر عمقا.

وهذا يستلزم فهما صينياـ أميركيا بما يخص التطور السياسي في شمال شرقي آسيا، وهذا يتضمن مستقبل كوريا الشمالية ومدى سرعة توحيد الكوريتين والكبح النووي في شمال شرقي آسيا. هذه ليست مهمة يمكن تقريرها بشكل نهائي على مستوى مساعدي وزراء خارجية البلدان المشاركة في المباحثات السداسية في بكين; بل هي تتطلب مبدأ يتجاوز المسائل التقنية المتعلقة بنزع السلاح النووي، ومعالجة الاتجاه العام للتطور السياسي والاقتصادي الجاري في شمال شرقي آسيا.

ولعل أكثر التحولات المعقدة تجري حاليا في اليابان. فهي وخلال نصف القرن الذي أعقب انهزامها في الحرب العالمية الثانية ظلت محمية بفضل اتفاقية الأمن الثنائية مع الولايات المتحدة وهذا ما جعلها تركز على فرض نظام ذاتي خاص بها في مجال تحقيق استعادة عافيتها الاقتصادية والعودة إلى احتلال مكانة سياسية محترمة على الصعيد العالمي. فلأول مرة خلال تاريخها الممتد لألف عام سلمت اليابان سياستها الخارجية لبلد آخر. ومثلما أصبح مناخها الدولي في حالة تحول سريع راحت اليابان وبشكل متماسك وبارع وغير مباشر توسع هامش قدرتها على الفعل المتوفر لها. فإضافة إلى دورها في محاربة الإرهاب تمر اليابان بمرحلة تبني دور مساعد للولايات المتحدة وهي تهيئ نفسها كي تدخل الحلبة الدولية بصفتها قوة أساسية وهذا يشكل تحديا وفرصة في آن واحد للولايات المتحدة.

كذلك فإن بروز الهند كقوة دولية كبيرة سيكون واحدا من أهم أحداث العقد المقبل. وهذا كله حقيقي لأن للمنطقة الجغرافية المتمثلة بالعالم المسلم ووسط آسيا أهمية كبيرة بالنسبة للهند وهي تتزأمن مع وجود قلق كبير لدى الولايات المتحدة من هذه المنطقة بالذات، ومصالح هذين البلدين تتوازيان هناك في مجالات مهمة.

مع ذلك فإن الظروف الحالية أصبحت أكثر تعقيدا لأن من المفترض للمنطقة أن تندمج على المستوى العالمي بدلا من أن تكون مقتصرة على المستوى الأطلسي، ولأن أعراض الأزمة غالبا ما تخفي الواقع على حقيقته. لذلك فإنه بالنسبة لأوروبا حتى مع وجود مشاورات مكثفة فإنها في نهاية المطاف ستصل إلى موقف معارض مع العلاقة الأطلسية الخاصة التي تجمعها بالولايات المتحدة. فكمؤسسة سيتراجع الاتحاد الأوروبي عن استخدام القوة إلا تحت ظروف خاصة - إجماع في مجلس الأمن الدوليـ وهذا ما يفقد التحالف من مكانته الخاصة. والتحدي الذي يواجه السياسة الأطلسية هو فيما إذا كانت الأمم المنتمية للتحالف تستطيع أن تسترجع الشعور بوجود مصير مشترك لها جميعا أم لا، وعلى أي أساس يمكن أن يتم ذلك؟ وفي غياب شعور من هذا النوع فإن هذه الأمم ستنجر صوب نظام دولي ذي تحالفات تتغير باستمرار سعيا لإرضاء مصالح قومية ضيقة، أو بسبب مخاوف إقليمية لا تختلف كثيرا عن تلك التي كانت سائدة قبل الحرب العالمية الأولى.

والبلدان الآسيوية موضوع المناقشة هنا تسير صوب طريق آخر. فمشاوراتها مع الولايات المتحدة هي ملائمة وفعالة. فالحوافز ذات الأمد القصير هي من أجل التعاون. هناك مع ذلك ثلاثة تحديات على الأمد المتوسط، فالأمم المشاركة في هذا الاتجاه ستحكم على مدى أهميتنا لمصالحهم من خلال ما سينتج عن العراق. بشكل ما قد تكون هناك مخاوف من قوة أميركية مهيمنة، لكن الدوافع ستكون مختلفة عن تلك التي أظهرتها بعض البلدان الأوروبية، مع ذلك فإن هذه البلدان قد تحاول اختبار الخيارات التي تمكنها من تحجيم القوة الاميركية. لكن ذلك سيكون كمناورة لا انطلاقا من مبادئ أخلاقية أو قانونية بل منطلق توازن القوى. وتحتاج السياسة الاميركية أن تكون حساسة تجاه هذه السلوكيات. فالقوة الاميركية هي حقيقة مسلم بها; لكن فن الدبلوماسية هو القدرة على تحويل القوة إلى إجماع. وهذا يتطلب أكثر من علاقات جيدة مع البلدان التي توفر عددا أكبر من الخيارات. إنها تستوجب قبل كل شيء وجود رؤية موحدة خصوصا فيما يتعلق بالتحديات التي تؤثر وبشكل موضوعي على كل البلدان: منع انتشار الأسلحة النووية والسيطرة على الأوبئة والتطور.

وأخيرا فلا بد أن يكون وجود نظام دولي أمرا أساسيا إذا كان أعضاؤه يرون أن الحفاظ عليه أكثر أهمية من المصاعب التي لا بد أن تظهر خلال عمله، وحينما يكون هذا النظام ضروريا لخلق فرص الإبداع. فوسط تيار الانفعالات التي تغمر الشرق الأوسط، على السياسة الخارجية الاميركية أن تنظر إلى ما وراء مشاعر الإحباط الفورية أي إلى رؤيا لعالم جديد بناؤه قيد الانتظار.

* خدمة «تريبيون ميديا سيرفيسيز انترناشونال»

ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»