الدولة الوطنية العربية ومأزق الإصلاح

TT

من الاشكالات المعقدة التي تطرح في حقل الدراسات الاجتماعية والسياسية العربية، طبيعة تصنيف ومقاربة الدولة الوطنية الحديثة التي نشأت في حقبة الاستقلال، ولم يكن لأغلبها جذور تاريخية بعيدة.

ويترجم طغيان مقولات إيديولوجية رائجة، من قبيل الدولة القطرية، أو دولة التجزئة، عقدة التعامل السياسي والمعرفي مع كيانات، لئن حجبت عنها الشرعية القومية واعتبرت من آثار مخططات الاستعمار ومؤامراته، إلا أنها مع ذلك لم تفتأ تتوطد وتتدعم وتمتص الشعار القومي نفسه لتعزيز حضورها، ولا يبدو في الأفق القريب خيار بديل منها.

ولئن كان الخطاب القومي التقليدي قد راهن، بتبسيط شديد على حتمية اختفاء هذه الدولة منظور الإسقاط التاريخي وميتولوجيا الروح الاندماجية القاهرة، إلا أن الخطاب الجديد الذي قام به بمراجعة نقدية هائلة لأطروحاته ومفاهيمه (تمت أساسًا في إطار المشروع الفكري لمركز دراسات الوحدة العربية في بيروت)، غدا يستند للأدبيات المستقبلية الراهنة، وإلى التجارب الاندماجية الناجحة في العالم المتقدم (خصوصا التجربة الأوروبية)، لتأكيد الرهان ذاته على ضرورة تجاوز الكيانات القطرية العاجزة عن تأمين الحد الأدنى من وظائفها الرعوية والتنموية (حفظ قوام الأوطان وضمان مصالحها الحيوية).

وعلى الرغم من إيماننا الراسخ بالمثال الاندماجي القومي، وإدراكنا لحدود وقصور الدولة الوطنية الناشئة، إلا أننا نعتبر المقارنة المذكورة بين تجربتي الدولة القومية في أوروبا ونموذجها الهش في المجال العربي، لا تستقيم ولا يصح بناء أي تحليل موضوعي عليها.

ودون الرجوع إلى معطيات تاريخية ونظرية معقدة ليس هذا مجالها، نكتفي بالتذكير بأن الدولة القومية الحديثة في أوروبا، التي نشأت منذ قرنين، قامت على محددين رئيسيين هما:

- ازدواجية الإفراد والقولبة الكلية، أي الجمع بين أولوية المواطن، من حيث هو كائن فرد يتمتع بالحرية المطلقة (مبدأ عظمة العصور الحديثة حسب عبارة هيغل)، وإطار الانتماء الجماعي للأمة، الذي تجسده الدولة بصفتها كيانا روحيا قوميا شاملا، يستوعب المجموع في نسيجه الثقافي والقيمي والتاريخي الحي.

- مبدأ وآلية التمثيل السياسي، أي ضبط رهان السلطة من خلال شرعية التعاقد والاختيار الحر، مما يعني ترجمة الإرادة المشتركة للأمة في أطر انتخابية تعبر عن خياراتها، وتقنن موازين الصراع القائمة داخل فضاء المجتمع المدني الذي هو حقل تناقض الإرادات والمصالح.

ولا شك أن هذا النموذج هو الذي أفرز آلية التنظيم الديمقراطي الحديث، التي ضمنت السلم المدني الداخلي في المجتمعات الأوروبية بعد حروب العصور الوسيطة الدامية، كما سمح تدريجيًا بتطبيع العلاقات داخل البلدان الأوروبية، مما هيأ الأرضية الملائمة للمشروع الاندماجي الأوروبي الراهن.

ومن المفارقات البارزة أن هذا المشروع الوحدوي الناجح، غدا يهدد نموذج الدولة القومية التي فقدت، موضوعيًا، جانبًا وافرًا من سيادتها لصالح المنطق الاندماجي الوظيفي ما فوق القومي.

ومن هنا ندرك طبيعة الحوار الساخن في الساحة الأوروبية بين التيار السيادي المتشبث بالأطر الوطنية والقومية، من حيث كونها التعبير الأوحد عن هوية الأمة والفضاء الوحيد المتاح لممارسة الديمقراطية، والتيار الاندماجي الذي يعتبر الدولة القومية نموذجًا متجاوزًا لا موقع له في حركية العولمة.

وفي ما وراء هذا الحوار الإيديولوجي والسياسي المتشعب والساخن، تكمن اشكالات نظرية وسوسيولوجية معقدة، تتعلق بطبيعة العقد الاجتماعي ذاته وأزمة الديمقراطية التعددية، تتمحور كلها حول الانفصام بين العقل السياسي والفضاء الإقليمي، من حيث كون الدولة القومية الحديثة شكلت إطار اقترانهما طيلة القرنين المنصرمين، فما هو البديل عنها بعد انتكاستها وتراجعها؟

إن هذا الحوار لا علاقة له بطبيعة الحال بمسار الدولة الوطنية العربية، التي استنكفت، منذ البداية، لأسباب موضوعية وإيديولوجية، عن التسمي بالصفة القومية حتى في البلدان المتنوعة قوميًا وعرقيًا.

فلم تعرف هذه الدولة ديناميكية الإفراد التي عوضت البنيات العشائرية والطائفية في البلدان الحديثة، بل ما تزال هذه البنيات فاعلة ومؤثرة في مرتكز الدولة ذاته، ولو برهانات مغايرة لأدوارها في المجتمعات التقليدية، كما لم تنجح في بناء رمزية جماعية ناجعة تمحض له الولاء وتسمح لها باحتواء واستيعاب الحراك الاجتماعي في أبعاده الصراعية.

وإذا كان منطق الدولة القومية الحديثة في أوروبا، كما أدرك هيغل، هو حاجة المجتمع المدني الهش (من حيث سمة الصدام والصراع الغالبة عليه)، إلى إطار بيروقراطي وتمثيلي ينظمه، على أن لا يكون مجرد سلطة إجرائية، بل وحدة روحية حية، فإن مأزق الدولة الوطنية العربية ناتج عن الضعف المزدوج لهذه الدولة في اتجاه المجتمع الذي لا يشعر بالولاء لها ومن ثم ميله لإعادة إنتاج أنماط شتى من الهويات الخصوصية، وفي اتجاه المنظومة العالمية التي غدت عاجزة عن الاندماج فيها لأسباب تتعلق إما بقصور آلياتها الداخلية (في مستوى الفاعلية الاقتصادية وأجهزة الدولة البيروقراطية والإدارية) أو لعوائق تعود لطبيعة الأنظمة السياسية الرافضة للتأقلم مع ديناميكية التغيير الديمقراطي التي عرفها العالم برمته.

أمام هذا المأزق، تبلور خطابان: تعبوي مقاوم يتشبث بالمعادلة القائمة ضد «الاختراق الخارجي والاستعمار العائد في شكل العولمة»، وإصلاحي نقدي ينشد التغيير الذي أصبح ضرورة عاجلة لإنقاذ الأوطان والأمة.

بيد أن السؤال المسكوت عنه في هذا الحوار العربي الداخلي، يتصل بطبيعة وموقع الدولة الوطنية في هذا المنعرج الشائك، حيث يتم تارة نفيها باسم يطوبيا وحدوية تشكل ورقة تعبوية لمقاومة التغيير الداخلي المنشود، مما يعني في نهاية التحليل، الإبقاء على الكيان المنفي في أكثر أشكاله استبدادية وتخلفًا، في حين تتأرجح المقاربة الإصلاحية بين حدود السقف الوطني الضيق حيث لا تتمتع الدولة الوطنية في الغالب بأرضية البناء المنشود، والإطار القومي الأوسع الذي ليس له حقل انطباق موضوعي فعلي.

[email protected]