كتابة الاعتقال السياسي في المغرب

TT

ارتفعت في الآونة الاخيرة في المغرب وتيرة كتابة أدب الاعتقال السياسي، واتخذت مسارات ومستويات متعددة، واذا كان بعض رجالات المقاومة وجيش التحرير من الأحياء قد عملوا على إعداد مذكراتهم لتقديم شهادات حية عن مقاومة الاستعمار الفرنسي وأعوانه خلال سنوات الاحتلال، فإن شباب اليسار الذي تعرض لكثير من مظاهر العنف المادي والرمزي قد عمل بدوره على تحرير مجموعة من النصوص الهادفة إلى تشريح مختلف آليات القهر، التي تعرض لها في سنوات الجمر في عقد السبعينيات ومطالع الثمانينات. وقد اعتبرت نصوص عبد اللطيف اللعبي وعبد القادر الشاوي على سبيل المثال من المحاولات الأولى في هذا الباب، حيث نشرت في ظروف كانت ما تزال فيها ملامح أزمنة الجمر متواصلة بأشكال متعددة.

اتخذت نصوص الاعتقال السياسي سمات أعمال أدبية وفنية (نصوص حرة، أشعار روايات)، وعكست في روحها العامة مجمل خصائص آداب الاعتقال السياسي، ممثلة في تشخيص آليات القهر والاستبداد، وكاشفة عنف وشراسة أجهزة نظم الحكم، إضافة الى ما تضمنته من نقد مباشر لاختيارات السلطة السائدة، ونقد صريح أيضا للأخطاء الذاتية.

صدرت النصوص الأولى من أدبيات الاعتقال السياسي في مطالع الثمانينيات، وتلاحقت بوتيرة أكبر في عقد التسعينيات، وتضاعفت وتيرة صدورها في بدايات العقد الاول من القرن الواحد والعشرين حيث بلغ مجموع النصوص الصادرة منذ سنة 1999 إلى يومنا هذا ما يزيد عن ثلاثين كتابا في صورة مذكرات أو روايات أو شهادات، مقدمة صورا قوية عن أشكال المعاناة التي تعرض لها عشرات الشباب داخل أقبية السجون المظلمة والباردة، حيث تنعدم الشروط الدنيا للحقوق الانسانية، وحيث تشتغل أجهزة العقاب دون ضوابط قانونية محددة..

تعززت كتابات معتقلي يسار السبعينيات في هذا المجال بمذكرات ونصوص بعض معتقلي الإنقلابين العسكريين اللذين حصلا في مطلع السبعينات. وقد صدر في الأشهر الأخيرة كتابان لمعتقلين سابقين في السجن الشهير بتزمامرت والمعروف بمركز الموت. في مختلف هذه النصوص المكتوبة بكثير من المرارة، نعاين معطيات معينة تتعلق بالمعاناة الشديدة لمجموعات من الشباب الذين تعرضوا لكثير من العنف المادي والرمزي، كما نعاين صور القهر الذي لا يرحم، ونكشف موت المعتقلين أمام جلاديهم، كما نكشف اختفاء آخرين دون عودة ولا أثر.. وبجوار ذلك نقف على مكابدة العائلات التي ظلت تنتظر معرفة أماكن ذويها، أو تنتظر دون جدوى خروجهم من السجن بعد قضاء مدة أحكامهم.

تقوم هذه الكتابة في تصورنا بجملة من الوظائف، إنها تشكل وثائق تاريخية حية، وهي قابلة للاستثمار في مجال كتابة تاريخ الصراع السياسي في الثلث الأخير من القرن العشرين. ولعلنا لا نبالغ عندما نعتبر أن الرصيد الحدثي الموصوف فيها بمختلف الصور والصيغ التي تبلور فيها يقدم مادة مفيدة لتركيب جوانب أساسية من جوانب تاريخنا السياسي، حيث تتضارب وتتقاطع صور العنف بمخاضات التحول السياسي بالصور النمطية للصراع السياسي في حقبة تاريخية محددة. إضافة إلى ذلك نلاحظ أن هذه الكتابة تساهم في توسيع دائرة تحرير الوجدان من عذابات حقبة في التاريخ، حقبة يجري العمل بمختلف الوسائل على تجاوزها وتجاوز أخطائها، من أجل بناء توافقات تاريخية أكثر عدلا، توافقات تسمح بتوسيع فضاء العمل السياسي وترسيخ آليات الممارسة الديمقراطية.

إن الطابع الأكثر ايجابية لهذه النصوص ولتداولها على أوسع نطاق يفسح المجال أمام كثير من الفاعلين السياسيين على إعادة قراءة تاريخ الصراع السياسي في مغرب ما بعد الاستقلال، وهو الامر الذي يسمح بالوقوف على معطيات مساعدة على فهم سياقات الصراع وأبعاده المختلفة، للتمكن من التخلص من العقائد والتصورات السياسية التي أطرت بنية الصراع، حيث لايمكن فصل مظاهر وآليات الصراع المذكور عن الزمن الذي تولد فيه، وهو زمن محكوم بمنطق التجاوز مثل مختلف أزمنة وحقب التاريخ.. ولهذا السبب نتصور أن الأهمية الكبرى لأدب الاعقتال السياسي تتمثل فيما فجرته من حساسيات سياسية جديدة، وما تولد عنها من جدل سياسي قانوني وأخلاقي فاعل في المشهد السياسي الراهن.

فقد ساهمت كتابة الاعتقال السياسي (المذكرات والروايات والاستجوابات) في تعزيز دائرة العمل الحقوقي المدني، وأصبحت التنظيمات المغربية الحقوقية في ضوء الجدل التاريخي الناشئ بينها وبين منتجي هذه النصوص، أصبحت مطالبة بتطوير أنشطتها وآلياتها في العمل. وقد تأسس المنتدى المغربي من اجل الحقيقة والانصاف سنة 1999 مطالبا بالحق في معرفة الحقيقة، وداعيا إلى ضرورة طي صفحة الماضي من أجل مستقبل يقطع مع ممارسات الماضي المتمثلة في الاختطاف والاحتجاز في المعتقلات السرية والتعذيب خارج نطاق القانون والمؤسسات القانونية.

وأقيمت لقاءات وأنشطة بحثية بهدف تعميق النظر في جملة من المفاهيم الحقوقية والسياسية المتداولة في هذا المجال، وهو الأمر الذي ولد نقاشا مواكبا للتحولات الجارية فيما أصبح يعرف في مجتمعنا بمرحلة الانتقال الديمقراطي، حيث يعمل الجميع على توسيع مجال الحريات، من أجل حوار سياسي يشيع إمكانية إنجاح مسلسل التصالح مع التاريخ، وهو مسلسل نفترض ضرورة احتكامه إلى سلطة النقد وسلطة التاريخ.

تعززت دائرة هذا العمل بإعادة تأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الانسان الذي أنشأ بدوره هيئة للإنصاف والمصالحة، وهي هيئة تتوخى تجاوز أخطاء سنوات الجمر بجبر الضرر. وفي قلب هذه الهيئة المركبة من معتقلين سابقين وفاعلين في المجال الحقوقي والسياسي وبعض الباحثين في المجال السياسي تبلور نقاش معمق حول قضايا مرتبطة بمستقبل العمل السياسي في المغرب، رغم أن وظيفة الهيئة تتمثل في ترتيبها لموضوع كيفيات معالجة النتائج المؤلمة لتاريخ لا يمكن التخلص من تبعاته بسهولة ويسر.

إن أهمية المعطيات المشار اليها باختزال في الفقرة السابقة لا تتمثل في مبدأ الانصاف من أجل المصالحة، أي تعويض الضرر وجبر الخاطر بهدف بناء الحاضر والمستقبل بصورة لا يحصل فيها تكرار ما مضى.. بل في الجدل المركب الذي يتم في فضاء الهيئة الواسع، فضاء مؤسسات المجتمع المدني في صورها المختلفة، وهو الفضاء الذي تترجمه تناقضات التسميات والمسميات، استبدال مفهوم الحقيقة بمفهوم الانصاف، وتناقضات الاعتذار الرسمي للدولة مع لوائح التقدير المادي للقيمة المالية للضرر. إضافة الى اختلافات المعنيين المباشرين بالأمر في موضوع التعويض المادي، حيث يرى بعضهم أن الدرهم الرمزي الموصول بمحاكمة الأحياء من الذين شاركوا في تأثيث مشاهد سنوات الجمر واعتذار الاجهزة أهم من مبالغ مالية لا تجبر الضرر ولا الخاطر، ولا تعوض سنوات العزلة والقهر..

إن كل هذا الجدل بتوابعه المختلفة يكشف أمام المتأمل فيما يجري أن المصالحة التاريخية مسلسل سياسي طويل النفس، مسلسل تؤسسه الاختيارات السياسية الجديدة التي تمارس بالفعل عملية طي الماضي واساليبه في العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بهدف توطيد دعائم دولة القانون، وبهدف إصلاح مواطن العطل والخلل في الاقتصاد والسياسة والمجتمع...

إننا نربط نتائج كتابة الاعتقال السياسي وعمل المؤسسات الحقوقية بدينامية الاصلاح السياسي في المغرب، ونعتبر أن تجارب دول أخرى سبقتنا في هذا الباب يمكن أن تقدم لنا معطيات مساعدة على إدراك أفضل لملابسات ما يجري في حالتنا. فقد عملت جمعيات مماثلة في البرازيل والشيلي وفي بولونيا على تركيب آليات في الفعل سياسي الموصول بالأهداف التي نتجه صوبها أهداف تعزيز وتوسيع مجالات الإصلاح السياسي الديمقراطي، فهل نستطيع استنادا إلى ما سبق بناء تعاقدات سياسية جديدة مساعدة على التقليص من حدة وعنف ما حصل؟