هل تنكرت أميركا حقا لقيمها في دارفور؟

TT

في السادس والعشرين من الشهر الماضي، نشرت «الشرق الأوسط»، مقالاً لأحد كتّاب «نيويورك تايمز»، نيكولاس كريستوف، عنوانه «ها نحن نتنكر لقيمنا الأميركية ونخونها مرة أخرى».. يستعرض فيه رسائل من قراء أفزعتهم المذابح في دارفور، على حدّ قول أحد أصحاب الرسائل. وأخرى، تسأل الرئيس بوش: لماذا لا تسمح لكلمة دارفور أن ترتسم على شفتيك؟ لماذا هذه السلبية في وجه الشر؟ تستطيع أن تنقذ آلاف الأرواح بإلقاء كلمة قوية عن دارفور.. والكلمة القوية هي التطهير العرقي والإبادة الجماعية!

وعلى هذا المنوال، تستصرخ الرسائل الرئيس: ان دارفور يغمرها الشر حالياً ويتخلل حبّات رملها، فلماذا نسمح له ان يستمر ويعربد؟

ويخلص المقال إلى ان الدول تنهار بفعل الفوضى، فإنها تكون مفرخة للإرهاب وللأمراض من شاكلة ابيولا وشلل الأطفال، وكلاهما انتشرا في السودان، مما يعني ان السودان كدولة، آيل للسقوط، فلا ينبغي أن يفلت من شرف السقوط بأيدينا وبقوتنا العظمى!

وفي آخر فقرة في المقال يتحسر الكاتب على القيم الأميركية، التي تستوجب ضرب السودان، فيقول: «وعلى كل حال، فإن أميركا لديها قيم مثلما لديها مصالح، وقد تنكرنا لهذه القيم وخناها في الواقع، عندما تجاهلنا حملات سابقة للتطهير العرقي، كما نتنكر لها ونخونها حالياً».. وكأن القيم الإنسانية أصبحت حكراً لهم، وعليهم وحدهم الدفاع عنها!.

في واقع الأمر، يعتبر هذا المقال نسخة مشابهة لمقالات سابقة ولاحقة في صحف أميركية وغربية عديدة، وتصريحات وتوصيات لأعضاء في الكونغرس وتقارير لمنظمات، وفيها كلها يعلو صوت التحريض على العرب، وربما يزيد عنها بنقده الجارح للرئيس، لكنه يجاريها في إدانة العرب وتجريحهم والحط من حضارتهم بهدف الإيحاء لا لتفتيت النسيج الاجتماعي للسودان وتمزيق وحدته فحسب، إنما لفصم عرى الترابط بين العرب والافارقة الذين تربطهم القارة السمراء التي يسكنها أكثر من ثلثي العرب ويشاركون بفاعلية في كل مؤسساتها ومنظماتها.

ولعل الانتكاسات العربية المتلاحقة والضربات الاستباقية التي أدت إلى اجتياح العراق، أغرت المحرضين على أن الخطوة التالية هي ضرب السودان، باعتباره يمثل أهم واضعف الحلقات في آخر القلاع التي يمكن أن تكون سنداً وتواصلاً مع العرب.

دعونا نترك تحريضهم للرئيس بوش والانتقادات المريرة التي توجه إليه واللوبيات التي تعمل داخل لجان الكونغرس وخارجها، وننظر في ردود فعل كولن باول، عندما شد الرحال إلى دارفور بعدما حاصروه، وكيف خاطبهم بما لا يريدون سماعه، وكأنه يعتذر لهم حتى لا نقول يتحداهم، عندما قال: «إنه ما كان سيتردد في استعمال كلمة إبادة لو توفرت شروط مثل هذا التصنيف، وان هذا هو رأي الحقوقيين الذين يعملون معي».. ويصعب على المرء ادراك اللهفة على خلع صفات الإبادة والتطهير العرقي إلا في سياق المؤامرات التي تستهدف العرب، لأن مقدار هذا الكلام الذي يصرف اجتهاداً لهذا الدمغ، لا يصرف عُشره تدفقاً للمعونات الإنسانية التي هي في المقام الأول أولى بالاهتمام العاجل، وهذا ما عبّر عنه باول ايضا، عندما قال: «أنا مهتم بشؤون الناس أكثر من اهتمامي بالتصنيفات القانونية»، واصفاً الوضع بأنه كارثة. بينما وصفت المتحدثة باسم الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، نسبة المعونات التي وصلت بأنها متواضعة جداً، وانها بالكاد لا تصل إلى نسبة الثلث مما هو مطلوب، لهذا فالمرجو أن يهتم المجتمع الدولي بتقديم المزيد من المعونات وبأسرع ما يمكن، عوضاً عن تركيز كل الاهتمام بالتصنيفات القانونية!

لقد بدا واضحاً بعد زيارتي كولن باول وكوفي أنان، والإجراءات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة، أن هناك محاولات للكف عن الشطط في اتهام الحكومة بالتطهير العرقي، والتركيز على ان يصوب الاتهام إلى «الجنجويد العرب»، وقد تجلى ذلك في المطالبة بمحاكمة بعض شيوخ قبائلهم، مما يؤكد أن الأصل في الاتهام موجه بالدرجة الأولى إلى العرب. وبالنظر إلى تعذر إثبات الاتهام على الحكومة، فلا ضير من تحويله إلى ميليشيات الجنجويد أنفسهم، طالما يمكن الاحتفاظ بوضع الاتهام على الجنس العربي، لهذا طالبت الولايات المتحدة الحكومة السودانية بتقديم عدد من زعماء تنتسب إلى عشيرتهم شرائح من تلك الميليشيات للمحاكمة، لكن الحكومة فطنت للأمر ورفضت الطلب إدراكاً منها إلى ان ذلك من شأنه أن يقود إلى حرب أهلية حقيقية سرعان ما تنتشر بين القبائل العربية والافريقية. والأهم من ذلك كله، أن جوهر القضية هو احتكاكات حول المراعي والزراعة، وليس تطهيراً عرقياً. وكان يتكرر في الماضي بين حين وآخر، وتفضّه زعامات القبائل بالحِكمة والتفاهم والتقاليد المرعية، لكن هذه المرة حاولت جهات سياسية عقائدية أن تستغل هذا الأمر، وتحوله إلى قضية سياسية، وتنزلق به عن قصد أو غير قصد، إلى درك ما أطلق عليه التطهير العرقي والإبادة الجماعية، متناسية خطورة هذا الانزلاق وأثره على بنية المجتمع وسمعة العرب في الإطار الأعم. والحكومة هي الأخرى لم تكن في مستوى الموقف، وتصرفت على نحو خاطئ بما جعلها تساند فئة على أخرى، عوضاً عن أن تترك الإدارة الأهلية تمارس دورها المعتاد. كذلك خطف الشباب الذين تزعموا الميليشيات المضادة دور الزعامات العشائرية، وحاولوا تسييس القضية، مما فتح المجال واسعاً للتدخلات الخارجية على نحو ما بلغ من اتهام يصب خارج إطار القضية.

وبالرغم من هذا التجاهل لزعماء القبائل من جانب الحكومة واختطاف دورهم من قِبل الشباب، الذين تزعّموا ما أطلق عليه «حركة تحرير السودان» و«حركة العدل والمساواة»، فإن هذه القيادات عربية وافريقية، قد لعبت دوراً عظيماً خلال اجتماعاتها بكولن باول، وكوفي أنان، عندما نفت دعاوى التطهير العرقي والإبادة الجماعية، واشتراك قواعدها في تلك المعارك، وتحميلها مسؤولية ما جرى للحكومة بتعضيدها لبعض الميليشيات واستخدامها المفرط للجيش في فض النزاعات. وهكذا تجلت حكمة القيادات العشائرية وأصالتها في قطع الطريق أمام فتنة التطهير العرقي التي ما تركوا باباً إلا وطرقوه ليتسللوا عبره.

وإذا كانت الحكومة فطنت أخيراً للمخاطر المحدقة بها وبالسودان واستجابت لكل مطالب الأمم المتحدة وتعاونت بشكل متميز مع الاتحاد الافريقي، فينبغي عليها أن تلتفت إلى الوفاق الوطني الذي تحتاج إليه البلاد متعظة بما يجري في دارفور قبل أن يحدث ما يماثله في الشرق الذي هو قابل للانفجار. فالسلام الذي هبّت رياحه من الجنوب، يلزم أن يكون شاملاً لكل السودان، ومثلما يتهيأ السودانيون للسلام والاستقرار، يتهيأ المتربصون والطامعون لإفشاله قبل أن يتحول إلى حقيقة ويطاح بحلمهم في النيل من وحدة نسيجه وتمزيقه إلى كيانات عديدة وهزيلة!