في عالم الإرهاب..الأيديولوجيا والثقافة.. مَن ذبح مَن..؟

TT

يبدو أن كلمة الذبح باتت رائجة هذه الايام، من الجزائر الى الرياض

والخبر مروراً ببغداد، وهو مصطلح تُضيفه القاعدة الى عائلتها اللغوية من خطف وقتل واحتجاز رهائن وترويع الآمنين، فنحر الأبرياء يعني في ما يعني بصمة دامغة تُميز القائم بالسلوك عن غيره ممن يسلكون نهج العنف ويستلذون برؤية الدم الداكن البريء.

على ان السلوك ما هو الا تصرف مادي له مرجعية وأرضية فكرية ينطلق منها. هذا الفكر هو الذي يسكب طبيعة وأبعاد هذا السلوك، فنراه مجسداً على الارض سواء كان عنيفاً أم إنسانياً استناداً الى مضامين ذلك الفكر أو تلك الأرضية.

وطرح كهذا، دفعني الى تساؤلات عدة حول الايديولوجيا وتأثيرها فضلاً عن صراعها مع الثقافة (بمفهومها الشامل)، لاسيما في خضم الأحداث المأساوية التي تعيشها السعودية منذ فترة.

فالمتأمل لهكذا احداث، لا يلبث ان يلحظ ان ثمة ايديولوجية ذات اسباب سيكولوجية وسوسيولوجية وراء ظهورها، وقد ساهمت عدة عوامل في ترسيخها ونجاحها لتطفو على السطح بقوة، لا سيما ان البيئة الحاضنة لها عامل مساعد لها في البقاء والتأثير مما يجعل عملية اجتثاث جذورها مهمة صعبة ولا اقول مستحيلة طالما ارتهنا الى النقد المعرفي في تحليل رواسبها ومعالجة نتائجها موضوعياً وعقلانياً تحت مظلة قرار سياسي حاسم، واضعاً مصلحة الوطن نُصب عينيه ومتمسكاً بثوابته ومكتسباته ووحدته الوطنية.

وليس من جديد القول بأن ايديولوجية القاعدة اخترقت مجتمعنا المحافظ والمسالم باستخدام (توظيف النص الديني) وطرح الاحكام الجاهزية والجزافية، فاستغلت ذلك المناخ الديني وتلك البيئة المحافظة لزرع افكارها ورؤاها في مجتمع يحمل الكثير من الاحترام والتقديس لكل ما هو ديني، وهنا تكمن المعضلة فتجد التعاطف من بعض الفئات، وربما التردد والصمت من البعض الآخر، في مقاومة تلك العقليات المتلبسة بشعار الدين، والمتخيلة لصورة ماضوية مسرفة في الانتقائية تريد فرضها على المجتمع والدولة.

ولعل من يفكك خطابها، يجد انه يرتكز على مفاهيم التبرير والإدانة والاقصاء والالغاء، ورفض الحداثة والتوجس من الجديد، والخوف من التغيير بدعوى المحافظة على القديم والتراث والقيم بأساليب تنظيرية جامدة، تفتقد الى المعالجة الموضوعية والنقد العقلاني، ورغم ان هذه الفئة لا تعبر عن السلوك السائد للمجتمع، إلا إنها تبقى جزءاً من تركيبته الاجتماعية، ولذلك فتعاطفها مع تلك الايديولوجية يبقى له تأثير على النسيج المجتمعي، وان ظل محدوداً ولكن خطورته تكمن في استمرارية نموه وتشعبه ما لم يواجه بحلول أمنية وعلمية لإيقاف تسارع وتيرته، وبالتالي تخفيف منابعه الفكرية والمادية، واقتلاعها من جذورها. فالمسألة لم تعد طرح شعارات دينية، بل لها اهداف سياسية لم تعد تنطلي على احد.

ولعل خطورة الايديولوجيا (الدينية الراديكالية) حين تحليلها معرفياً، تجد انها تنطلق من ارضية (رفض الآخر) و (سلوك الرفض) مستندة الى ذات انغلاقية، لا تحلم الا بصورة (الماضي المختزل في ذهنها) ولا يمكن لها التكيّف أو التعايش مع ما حولها، بل تنزع الى التقوقع والجمود والهروب الى الامام، رغم ان واقع الحال من معطيات ومتغيرات ترى ضرورة التفاعل والاندماج والتداخل والتعايش في عالم بات الى التلاقح هو أقرب، مما يحتم عليك المشاركة والمنافسة وإلا كنت خارج التاريخ. وما دام الامر كذلك، فليس مستغرباً ان تكبح الايديولوجيا الثقافة بل وتذبحها (وفق مصطلحات القاعدة) لانهما نقيضان، فالايديولوجيا تنزع للرؤية الاحادية المرتهنة لقاعدتي (اما، أو) و (مع أو ضد)، ومكبلة بكل القيود التي تكرس مفاهيم المطلق والتابو والإدانة، في حين ان الثقافة المستنيرة تكون متجردة في احكامها وتميل الى المعالجة المنهجية العلمية والشجاعة الادبية في الحكم والتعليل والتحليل، بمعنى ان المثقف المحايد يستخدم القراءة العقلية في الحكم على الاشياء، ايّ قبول الواقع (كما هو) وليس كما نريد له (ان يكون).

إذن : الموضوعية والعقلانية والحياد معان لا تستقيم مع توجهات ومفهوم الايديولوجية التي تجعل من معتنقها واقفاً معها ومبرراً مواقفها على الدوام بغض النظر عن مشروعيته أو صحته، ولذلك فهي لا تعترف أو لايهمها الموقف القيمي، بقدر ما ان مرادها يكمن في تحقيق اهدافها (اياً كانت) من دون ان ُتعير اهتماماً للمعطيات الآنية والظروف المحيطة، وهذا ما يجعل نتائجها وخيمة وقد يعرضها للسقوط والانهيار مثل ما حدث مع الاتحاد السوفياتي وطالبان في افغانستان.

غير ان سقوط معتنق الفكر لا يعني بالضرورة تلاشي الفكر ذاته، فالفكر الاشتراكي و القاعدي ـ ان جاز التعبير ـ ما زالا في الساحة، وهو ما يؤكد مقولة كارل بوبر في كتابه (بؤس الايديولوجيا) ان الايديولوجيا لم تنته ولن تنتهي، وقد تكون في مأزق ولكنها في تقديري ستبقى، ما لم نواجهها بأسلوب نقدي معرفي، وليس بإنتاج مقولات وآراء لا تبتكر مناهج وبطرق دفاعية وتبريرية، واجترار مقولات مستهلكة وعقيمة ناهيك من خطاب ينزع الى التعتيم والارتجالية والانفعال اللحظي.

ولذلك فإن المسلسل العنفي الذي اشاهده في بلدي لا يلبث ان يدفعني الى تساؤل حارق واليم في آن... هل من نهاية لهذا السيناريو المريع؟

الحقيقة لم أجد الإجابة القاطعة، وظلت نفسي تراوح في إجابتها ما بين الإيجاب والنفي، فإذا ارتهنت لعواطفي ولمشاعري الوطنية، وما اقرأه واشاهده في وسائل إعلامنا المرئية والمقروءة، فانني اكاد اجزم انني متفائل بأن الحلقة الاخيرة على وشك الحدوث، اما إذا اسقطت التحليل الفائت في هذا المقال على هذا المسلسل، فإن هناك نفيا مشروطا بإسلوب المعالجة والمواجهة، طالما ان الجميع يقوم بدوره المناط به (حكومة و شعباً)، أيّ نتحول من مسألة الدفاع عن الذات وردات الفعل الى فعل يمارس النقد، ايّ نقد لأدوات وآليات ومضامين هذا الفكر من حيث (اللغة والتوجه والأداة والمفهوم والرؤية والمنهج)، فضلاً عن الاستفادة من الحدث للوصول الى خطاب وطني يرسخ مفهوم الوحدة الوطنية، وينمي الانتماء للكيان وللارض، في ظل انفتاح فكري لكل التيارات والمذاهب والاصوات تحت مظلة الوطن. نعم طالما اننا استندنا الى ممارسة النقد في المواجهة، فإننا سنخرج الى بر الامان، محققين انتصاراً وطنياً قبل ان يكون إنجازاً فكرياً اجهز على فكر مريض بكشفه وتعريته لنا ولأجيالنا المقبلة.