صدام حسين.. تراجيديا الكذب والضعف وإضاعة الفرص..!

TT

منذ لحظة القبض على صدام حسين في حفرة بالقرب من تكريت قبل سبعة أشهر مضت، ظل الطنين يتعالى في الدوائر العروبية حول ما يمكن أن يتم في محاكمته. وقد ظلت حركة القومية العربية تبحث عن خلاص ومخلص طوال السنوات الماضية، فافترضت أن الطاغية المخلوع سيلعب لها هذا الدور. ولكن يبدو أن صدام، وعندما ظهر الأسبوع الماضي، أضاع فرصته في أن يكون الفارس المأمول والبطل الجديد للقومية العربية. وقد توفرت له ثلاثون دقيقة عندما ظهر أمام القاضي العراقي، وهي ضعف الفترة التي قال آندي وارهول إنها تكفي لتحقيق الشهرة، ليسوّق خلالها الشخصية الجديدة التي ظل يحلم بها أولئك الذين استبد بهم الحنين إلى القومية العربية، ومن ضمنهم 1500 محام قالوا إنهم تطوعوا للدفاع عنه.

كانت تصرفات صدام أثناء ظهوره ذاك مادة للتحليل لدى كثيرين من هواة علم النفس. وقد لاحظ أحد الصحافيين «العينين الدامعتين للطاغية، اللتين جعلتاه يبدو كاليتيم» مما يذكر بحقيقة أن صدام فقد والده وهو طفل صغير. ولاحظ صحافي آخر «النظرات الزائغة» التي كان صدام يلقي بها ذات اليمين وذات الشمال، مفسرا ذلك بأنه عرض من أعراض البارانويا. وفي لحظة مقبلة سيخضع صدام لاختبارات نفسية لتحديد ما إذا كان مؤهلا عقليا لمواجهة المحاكمة. أما حاليا فإن الابعاد السياسية لسلوكه أثناء ظهوره ذاك هي التي تثير الاهتمام. وكان يمكن لصدام أن يختار واحدة من ثلاث استراتيجيات:

الأولى: كان من الممكن أن يختار لنفسه دور القائد المخلّص الذي قاد شعبة إلى الكارثة نتيجة حسابات خاطئة. كان يمكنه أن يعترف بالمسؤولية ويتحملها ويطلب من شعبه العفو. وهي الاستراتيجية التي اختارها الزعيم المصري جمال عبد الناصر عام 1967 بعد أن ساق العرب إلى الهزيمة في تلك الحرب ضد إسرائيل. وقد عرض ناصر استقالته وفوض الأمر للشعب. ووقع اعترافه بالخطأ موقعا حسنا في قلوب المصريين، فتدفقت جموعهم إلى الشوارع بالملايين ليطلبوا منه البقاء، فيما غفرت له كل الأخطاء واستمر في الحكم حتى موته بعد أكثر من ثلاثة أعوام من ذلك الحدث.

ولكن صدام لم يختر هذه الاستراتجية. بل زعم أنه «رئيس العراق» ولم يبد أية رغبة أو استعداد للاعتراف بأي خطأ خلال الحكم المطلق الذي امتد لعدة عقود. بل تمادى ليتهم بعض العراقيين الذين لم يسمهم بأنهم خانوه، وربما يعني القوات المسلحة التي لم تقاتل للدفاع عنه.

الثانية: كان بوسعه تصوير الشعب العراقي كضحية للعدوان. وكان يمكنه حينها أن يضع نفسه موضع «المجسد لإرادة الشعب العراقي»، والذي يرمز لمعاناتها وآمالها في نفس الوقت. وهذه هي الاستراتجية التي تبناها الطاغية الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش أثناء محاكمته في لاهاي والتي ما تزال مستمرة حتى الآن. وكنتيجة لهذه الإستراتيجية تمكن ميلوسيفيتش من الاحتفاظ ببعض قاعدته الشعبية في الصرب بينما تحول إلى رمز بطولي للمتعلقين بالقومية السلافية. ولكن صدام لم يختر هذه الاستراتيجية أيضا. وعندما سئل عن عنوانه قال صدام «عنواني كل بيت عراقي»، ولكن ميلوسيفيتش قال إن عنوانه قلوب جميع الصرب، رجالا أو نساء أو أطفالا. أما صدام فقد أدعى ملكية كل بيت عراقي! وبينما كانت عبارة ميلوسيفيتش درامية تشد عرى القلوب، كانت عبارة صدام تسلسلية محتواها تشكيل معماري.

قدم ميلوسيفيتش نفسه باعتباره الأول بين متساوين بالنسبة للأمة الصربية، بينما قذف صدام بنفسه إلى الذرى في عزلة مجيدة عن الجميع وفي مكانة سامقة فوقهم. ولم يكن صدام، المهووس بعبادة الذات، قادرا على تصور الأمة العراقية ذاتا تصنع التاريخ، بل كان يتصورها موضوعا خاضعا لإرادته، وطينة طيعة في يده. إن مثله مثل لويس الرابع عشر الذي قال:« أنا الدولة». فالرجل في حالة إنكار ورفض على طريقة بينوكيو الذي كان يكذب على كل شخص على فترة طويلة الى درجة لم يعد يفهم معها ما يحدث له، دعك مما يحدث للشعب الذي قاده الى سلسلة من المآسي.

دعا عبد الله اوجلان السلطات التركية الى مشاركته «النظر الى الأمام» والتوصل الى استراتيجية للتعامل مع مظالم الأكراد في «تركيا الجديدة». تحلى اوجلان بالشجاعة في الاعتراف بأن الحرب الاهلية التي استمرت 15 عاما كانت مأساة على الأكراد والشعب التركي على السواء، ولم يطلب الإفراج عنه. وحتى داخل السجن كان يعمل من اجل المصالحة.

صدام حسين لم يختر هذه الاستراتيجية، بل انه ليس مستعدا للاعتراف بأعضاء القيادة العراقية الجديدة، بمن في ذلك اعضاء الحكومة المؤقتة، كعراقيين، دعك من العمل معهم لمصلحة العراق.

لم يتفوه صدام حسين خلال المحاكمة إلا ببضع مئات من الكلمات، إلا ان هذه الكلمات كافية لرسم صورته السياسية. فقد عاد الى ايامه السابقة عندما كان مثيرا للمشاكل في الشوارع وزالت السلطة ليظهر البعثي المتشدد الذي حاول اغتيال الرئيس العراقي السابق عبد الكريم قاسم.

معروف عن صدام استخدامه للالفاظ النابية والميل الى النكات البذيئة. فخلال الجلسة الإجرائية للمحكمة الاسبوع الماضي لجأ الى الاستعانة بهذا المخزون لتبرير غزوه للكويت واصفا الكويتيين بـ«الكلاب». ثم زعم بعد ذلك ان الكويتيين كانوا يشترون النساء العراقيات في الشوارع بعشرة دنانير (15 دولار). (لعل الشخص يتساءل هنا كيف عرف صدام حسين هذا السعر). لم يخطر بذهن صدام حسين ان الناس ربما يتساءلون لماذ تسبب هو كرئيس للعراق في إفقار النساء العراقيات كي يضطررن لبيع اجسادهن في الشوارع، حسبما زعم.

قضية الكويت كشفت الأكاذيب التي ظل يمارسها صدام حسين مع الأمم المتحدة لمدة 13 عاما. فبموجب اتفاق وقف إطلاق النار عام 1991 وقرار مجلس الأمن رقم 18، من المفترض ان يتخلى صدام عن مطالبه تجاه الكويت. كما ان برلمانه أجاز قانونا ينص على احترام استقلال الكويت وسيادتها، إلا أن حديث صدام حسين أمام جلسة المحكمة الاسبوع الماضي اثبت ان كل ذلك لم يكن سوى تمويه من صدام حسين لخداع الامم المتحدة، اذ أكد ان «الكويت تتبع للعراق»، زاعما ان هذه حقيقة يعرفها كل الناس.

فقد بدا صدام وهو يقول كذبة ليخفي بها كذبة اخرى. يتضح ذلك من زعمه ان الجنود العراقيين ارسلوا الى الكويت «للدفاع عن شرف العراق»، كما قال لجيشه وقت الغزو عام 1990. وفي نقطة اخرى يزعم صدام انه اصدر تعليماته بغزو الكويت لشغل جيشه، ربما لمنعه من تدبير انقلاب ضده.

الآن ندرك ان صدام حسين لم يضم الكويت كخطوة اولى باتجاه تحقيق حلم دولة عربية موحدة كما قال للقوميين العرب، اذ انه ارسل قواته الى الكويت لقتل الذين كانوا يشترون النساء العراقيات وشغل جيشه حتى لا ينقلب عليه داخل العراق.

اما عن عمليات القتل الجماعي عام 1988 التي اودت بحياة الآلاف في مدينة حلبجة، فقد قال صدام انه علم بهذا الامر من وسائل الإعلام.

هل هذا صحيح؟ ولكن ماذا عن مئات الوثائق الرسمية التي تثبت ان صدام حسين لا يعرف فحسب عمليات الإبادة التي حدثت هناك، بل انه هو شخصيا الذي اصدر تعليمات تنفيذها «لإسكات شر الاكراد الى الأبد»؟

يبدو صدام حسين كواحد من البوربون، الذين لم يتعلموا شيئا ولم ينسوا شيئا ولم يغفروا شيئا. ولعل موسيقى اغنية «لست نادما على شيء» هي افضل موسيقى تصويرية لمشاهد صدام حسين في جلسة المحكمة الاولى الاسبوع الماضي.

الاستراتيجية الثالثة التي كان بوسع صدام استخدامها ربما تكون متعلقة بالمستقبل. وهي استراتيجية استخدمها عبد الله اوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني خلال محاكمته في تركيا بسبب تهم تتعلق بالارهاب. حاول اوجلان تبرير الجرائم المنسوبة اليه بوضعها في «سياقها التاريخي». فقد قال ان حزب العمال الكردستاني استخدم الارهاب في سياق الحرب ضد الجمهورية التركية، واعترف بأن ذلك كان خطأ، بل عرض مساعدته في تغيير «السياق التاريخي».