لاهاي والولايات المتحدة .. والمعيار المزدوج

TT

تصدر محكمة العدل العليا الدولية في لاهاي اليوم (الجمعة) قرارها المرتقب بخصوص جدار الفصل العنصري المقام في فلسطين. قرارات المحكمة تستند إلى القانون الدولي بكافة بنوده ومواثيقه. هذا القانون الدولي الذي جندته الولايات المتحدة وبريطانيا من خلال مجلس الأمن والرأي العام لاحتلال العراق بواسطة القرارات المتتالية في مجلس الأمن.

لقد كان الخطاب الأمريكي آنذاك مفرطاً في الاستناد إلى القانون الدولي حتى ظننا، ساذجين، أن الولايات المتحدة أصبحت لا تحترم سوى القانون والمواثيق الدولية. ولكن ظننا هذا لم يدم طويلاً، فالإدارة الأمريكية والبريطانية تتجند منذ أسابيع، بناءً على طلب إسرائيلي، لإفراغ القرار المرتقب ضد الجدار من محتواه، ولإرغام الأمم المتحدة على عدم تبنيها لهذا القرار من قبل الجمعية العامة التي أحالت القضية إلى المحكمة الدولية في لاهاي للبت في موضوع الجدار.

قد لا تنجح الإدارتان الأمريكية والبريطانية في ذلك، كما لم تنجحا في الماضي في منع مجرد عقد جلسات المحكمة. ولكن هذا السلوك هو ترجمة فعلية لسياسة المعيار السياسي والدولي والأخلاقي المزدوج لهاتين الدولتين كلما تعلق الأمر بإسرائيل وممارساتها، وهي الطريقة ذاتها التي تتعامل بها أمريكا مع موضوع ترسانة الأسلحة النووية الهائلة التي تملكها إسرائيل، وهي أول دولة أدخلت أسلحة دمار شامل إلى المنطقة. تغاض وتسامح يثير القنوط والغضب، مقابل تشدد وتحريض ضد الدول العربية والإسلامية في السياق نفسه.

إن الجدار لم يكن على الإطلاق «أمنياً»، بل هو جدار سياسي يهدف إلى رسم الحدود المستقبلية للدولة «المقزمة»، دولة فلسطين كما يراها أريئيل شارون. وحتى لو كان الجدار «أمنياً» فهو جدار غير شرعي، إذ انه يتلوى كالأفعى في بطن الأرض الفلسطينية مخالفاً بذلك القانون الدولي. إنه جدار يفصل الفلسطيني عن مدرسته، أو عيادته، أو مكان عمله. يفصل الفلسطيني عن عائلته في الطرف الآخر للشارع، يطيح بآخر ما تبقى من حياة شبه عادية في ظل الاحتلال غير العادي. إنه يشكل، وخاصةً في منطقة القدس التي لا يمكن تسيير أي مسار فيها لأي جدار، جحيماً أكبر من الجحيم الموجود أصلاً.

لقد أصغى المجتمع الغربي، وخاصةً الأوروبي، لصدق الموقف الإنساني الفلسطيني ضد هذا الجدار الذي يشكل أبشع ممارسات الاحتلال منذ 1967. وقد كان الموقف الأوروبي الشعبي أفضل حتى من الموقف الشعبي وشبه الرسمي في بعض الدول العربية.

بعض الشخصيات العربية لم تصغ إلى أحاسيس الناس البسيطة، ولم تتابع أولئك الذين تظاهروا أسبوعياً في كل مكان، وخاصةً أولئك الذين أصيبوا في هذه التظاهرات ضد الجدار، بل ان صحوتهم وتعاملهم مع الموضوع أو النضال الميداني يتخذ طابع الشخصنة والفئوية، بمعنى أن الأمر يتعلق بهوية الشخص الذي يقوم بهذه الخطوة أو تلك، وعندها يكون الموقف مع «الشخص» وليس مع القضية، وهو ما لاحظناه في مواقف وتعليقات بعض الشخصيات العربية في حديثها مثلا عن «الديمقراطية الاسرائيلية ومنع البعض من المشاركة في الانتخابات»، أو عند الحديث في الفضائيات عن «النضال ضد الجدار».

من جهة أخرى، فإن فكرة الجدار هي بالأساس ليست فكرة اليمين الإسرائيلي بل هي فكرة حزب العمل، وخاصةً حاييم رامون وإيهود باراك وآخرون، وهم طرحوا هذه الفكرة بهدف مناكفة الليكود الحاكم وكأنه يملك حلاً لآفة انعدام الأمن الفردي والجماعي للإسرائيليين ولا يقوم بذلك. هذا اليمين الإسرائيلي الذي كان دائماً يرفض هذه الفكرة لأسباب آيديولوجية توسعية «سقط» في مصيدة حزب العمل، فتبنى الفكرة وتصرف بها وسوَغها لأغراضه السياسية اليمينية خالقاً معازل يلقي بداخلها بالفلسطينيين العزل أمام الصمت والتواطئ المعيب لحزب العمل واليسار الإسرائيلي، اللهم إلا حركات شجاعة مثل حركة «التعايش» اليهودية ـ العربية التي كانت دائماً الأكثر إقداماً وجرأة في مقاومة الجدار من أي طرف آخر، سواء كان ذلك في الجانب الفلسطيني أو الإسرائيلي، وكذلك حركة «كتلة السلام» التي يقودها أوري أفنيري، وهي حركات لم تنجح بعد في فرض أجندتها على شرائح واسعة من المجتمع الإسرائيلي بالرغم من محاولاتها المتكررة.

إن النضال ضد الجدار كان وسيبقى طويل الأمد، وليس مرهوناً بأي قرار لا لمحكمة محلية أو دولية أو «حركة» هنا أو هناك. إنه تحرك جماعي وشعبي بعيد عن الانفرادية أو الفئوية، وإلا فإن هذا النضال الذي بدأ جماعياً سيتعثر ولا يبقى منه إلا ذلك «الإسمنت» القاتم والقاتل.

يتذكر العديدون اليوم بالخير طيب الذكر المرحوم فيصل الحسيني، وكيف كان دائماً حريصاً على العمل الجماعي والوحدوي الجامع في منطقة القدس. غاب فيصل وغاب معه العمل الجماعي. لقد أصبح من الضروري العودة إلى هذا النهج الوحدوي، وإلى إعادة اللحمة للعمل النضالي، لكي نرتقي بالقضية إلى مستوى التأثير بعيداً عن نهج الانفرادية والتشرذم.

* رئيس الحركة العربية للتغيير في إسرائيل والنائب العربي في الكنيست