الثاليـوم البريطاني.. والسـم العراقي..!

TT

بدأ اللقاء الثاني مع «قلبي» ومشاكله في صالة العمليات بمستشفى برومتن بلندن أقل خوفا ورهبة، ومصدر ذلك الخوف وتلك الرهبة بالأساس هو أن هذا النوع من العمليات يجري بتخدير موضعي، أي أنني كنت واعيا لما يدور حولي من تحركات بين الأطباء ومساعديهم وبقية العاملين وما في أيديهم من معدات طبية، وما يحيط بنا من أجهزة كهربائية وشاشات تلفزيونية، بينما في عمليات «التخدير العام» فإن المريض لا يحس إطلاقا بمن حوله أو ما يجرى له.. من هنا كانت عملية القسطرة الثانية والتي أجريت لي يوم الخميس 24 يونيو (حزيران) الماضي فرصة أكبر لي للانتباه لما يعملونه، وأنا أراقب على الشاشة قلبي وهو ينبض بالحياة وكيف تصعد الأنابيب الطبية الدقيقة داخل الشرايين للوصول إليه بهدف مرسوم حدده الطبيب الجراح مسبقا في قيادة ماهرة من أجل الحياة واستمرارها في جسدي بشكل أحسن.

وأثناء العمل، وأنا مستلق على ظهري، كنت أسمعهم يتحدثون فيما بينهم حيث وردت كلمة (الثاليوم) ، مما جعلتني أتساءل بصوت عال أثار انتباه الممرضة الواقفة قريبا من رأسي، قلت لها بقلق لقد سمعت كلمة (ثاليوم) فأجابت باستغراب وماذا في ذلك؟ إنهم يتناقشون حول إمكانية إجراء فحص مسحي شعاعي بعنصر الثاليوم ليبين بدقة متناهية ومضبوطة مدى انسداد الشرايين القلبية الدقيقة حتى يتم العمل على معالجتها وفتحها، لاحظت الممرضة ابتسامة على وجهي، سألتني هي هذه المرة عن السبب، أجبتها سيدتي نحن العراقيين سمعنا عن مادة «الثاليوم» كثيرا حيث كان نظام صدام حسين في العراق يستعملها للقضاء على معارضيه السياسيين، رأيت أمارات الدهشة والقلق على وجه الممرضة الفاضلة، وانتبه الطبيب الجراح لمسموعات الحوار بيننا وجاء قريبا من رأسي، فأوجزت له الكلام، فقال مبتسما ومطمئنا سأمر عليك بالردهة حتى نتحدث فيما بعد.

وفعلا بعد سويعات، جاءني الجراح المعالج البروفيسور الإنكليزي سايمون دايفيز، ليتابع تطور وضعي الصحي وليوضح دور الثاليوم في عملهم الطبي والعلمي، وبادرت بإعطائه المزيد عن دور تلك المادة في حياتنا العراقية! فقلت له بأن نظام صدام حسين الذي انهار في العراق، كانت أجهزة مخابراته تستخدم هذه المادة لقتل المعارضين العراقيين السياسيين، ولكم الفضل هنا في بريطانيا في اكتشاف ذلك، ومن ثم التوصل الى العقار المضاد له، وشرحت مفصلا كيف أن أول عراقي أعلنت وفاته ضحية لهذه المادة القاتلة بلندن عام 1980 هو المرحوم المناضل مجدي جهاد صالح عضو القيادة السرية لحزب البعث المعارض ـ اليسار ـ وقد قدم من بغداد مصابا بهذا السم بعد أن تم استدعاؤه لدائرة الأمن العامة هناك لإنجاز معاملة سفره مع زوجته وابنته الصغيرة المريضة الى لندن، عملا بتوجيهات ومكرمة الرئيس القائد صدام حسين، وتم «إكرامه!» أثناء الانتظار بتقديم كأس عصير برتقال قاتل له!!.. ولقد ثبتت حادثة اغتيال المرحوم مجدي وسجلت رسميا هنا في لندن من خلال التقرير الطبي الصادر من مستشفى ويستمنستر بتاريخ 25 يونيو عام 1980، حيث عولج المغدور مجدي وفارق الحياة هنا قبل أن يتم التوصل الى العقار المضاد الشافي، ولقد اهتمت الأوساط الطبية والعلمية البريطانية بهذا السم الجديد وأطلقوا عليه اسم «السم العراقي!»، خصوصا بعد أن استقبلت لندن ضحية جديدة في نفس الفترة ذاتها وهي السيدة سلوى البحراني حيث فارقت الحياة ولم تفد معها حالة العلاج بعد انتشار «السم العراقي» في جسدها، إلا أن لندن استطاعت بعد ذلك إنقاذ حياة العديد من العراقيين ممن وصلت لهم أجهزة صدام وسقتهم ذلك السم الزعاف، فقد نجحت لندن في إنقاذ حياة السياسي العراقي الكردي الدكتور محمود عثمان وكذلك رفيقه السيد عدنان المفتي، والدكتور الجامعي حسين الجبوري ورفيقه العقيد الركن عادل الجبوري وغيرهم ممن استطاعت مخابرات صدام الوصول إليهم في المنطقة الشمالية العراقية، أي ما كان يسمى بالمنطقة الآمنة لكردستان العراق!!،وقد حدثت محاولات الاغتيال الفاشلة المشار إليها بعد عام 1991 وللأسف نجحت محاولة إجرامية أخرى هنا في لندن، حينما وصل عدد من عناصر مخابرات صدام من بغداد والالتقاء مع «صديقهم!» المرحوم عبد الرحيم العاني، وحينما كانوا جالسين ضيوفا عليه في مشرب، اغتنموا فرصة ذهابه لقضاء حاجة لينفذوا مهمتهم الإجرامية ويدسوا «السم العراقي» في كأسه ويهربوا في اليوم التالي عائدين الى بغداد، وقد أعطى المغدور العاني كامل مواصفاتهم وأسمائهم الحقيقية للجهات البريطانية المختصة وهو على فراش الموت، وفي الواقع فإنه من غير المعروف أعداد العراقيين الذين سمموا وماتوا داخل العراق من جراء هذه المادة القاتلة، وما أوردته هو المعروف بالنسبة لي والمثبت رسميا فقط. هذه قصة «الثاليوم» بجانبيها البريطاني المشرق والعراقي المظلم، وهي في اعتقادي تستحق أن تدرج في قائمة مواد الاتهام لصدام حسين وعهده وزبانيته، الى جانب المئات لا بل الآلاف من أعمال القتل والاغتيال التي طالت العناصر العراقية الوطنية المعارضة داخل وخارج العراق خلال السنوات الخمس والثلاثين السوداء من تاريخ العراق الدامي.

وأقول لمن يطلع هذه الأيام مدافعا عن صدام وعهده وجرائمه بحجج ما تراكم لدى العراقيين من تقدم علمي خلال السنوات الخمس والثلاثين الماضية، وهو تراكم طبيعي لشعب امتلك ناصية التعليم وتكامله منذ بداية تشكيل الدولة العراقية في عام 1921، أقول بأن أي معيار أخلاقي حقيقي للتقدم تثبت صحته إذا ما كان هدفه خدمة الإنسان والحفاظ عليه، وليس قتله أو تشريده، وبلغة الإحصائيات أيضا، لدينا ما يثبت بأن الملايين من العراقيين قد هربت من العراق في عهد صدام، هذا في الوقت الذي تعجز فيه تلك الإحصائيات عن إيراد أي رقم متواضع ولو بالأعداد عن عدد العراقيين الذين رجعوا للعراق واستقروا فيه وعملوا إيمانا «بالقائد الضرورة» وحكمه وحروبه وكوارثه..!.

* كاتب عراقي