لماذا «انت عمري»

TT

يشرفني دريد لحَّام مضيفاً او ضيفاً. ويغمرني بما هو كثير عليَّ، اذا جاء من رجل مثله. وفي استضافته الاخيرة قلت رداً على سؤال ان اجمل اغاني العمر عندي هي «انت عمري». ولم يتسع الوقت لفيض الخاطر وشرح السبب العاطر. كنت اتمنى القول ان ام كلثوم ربما ظلت مغنية في الاعراس لو لم يقدَّر لها عباقرة الشعر والموسيقى وعمالقة الرقي والذوق: من بيرم التونسي الى احمد رامي الى رياض السنباطي الى جورج جرداق الى بليغ حمدي. وعمداً التقت حنجرتها وسيرتها وسحرها بشعر احمد شفيق كامل وعبقرية محمد عبد الوهاب، انما تناظرت القمم قبالة بعضها في صف نادر. وكان ذلك يوماً مثلث الروعة. لقد ادرك كامل انه سيكتب شعراً للست وللاستاذ. وادرك الاستاذ انه سوف يلحن للست. وادركت الست ان كل ما مضى على حنجرتها قد ذوَّبته حنجرتها، اما الآن فالتحدي في مصاف الهامة العملاقة. كان كل منهما يشعر انه في اصعب معارك الحياة: آهتها وعوده. سطوة حضورها ونغمه! ولما سمعت انه ادخل «الغيتار» على تراثها وعراقتها ومنديلها الذي تحرك به الجماهير، قررت ان تمتنع. فلما عزف لها المقطع المختلف عليه تحرك الهرم امام النغم. لقد كتب عبد الوهاب مقدمة موسيقية الهدف الحقيقي منها الغاء ام كلثوم وتبديد اسطورتها، وتحويلها الى مجرد مطربة تغني ما يكتب لها. وما ان انتهت المقدمة الموسيقية المؤلَفة من الف نهر والف بلبل والف قصيدة حب، حتى تقدمت الست، ورفعت منديلها، ولوَّحت، فلاح في افق الاغنية العربية فجر تأخر طلوعه طوال عقود.

لو لم تدرك ام كلثوم مبكرة ان العبقرية الواحدة لا تكفي، لانتهت مع آخر عرس دعيت الى الغناء فيه. ولو لم تلتق فيروز عاصي الرحباني في الاذاعة اللبنانية لربما ظلت مغنية فرقة (كومبارس) تحضر قبل الظهر وتغادر الى بيتها القريب في «زقاق البلاط» مشياً على الاقدام. ولو لم يلتق جيمس جويس ناشراً مغامراً في باريس لما اصبح فيما بعد احد عمالقة الادب الانكليزي. وها هي دبلن، التي ازدراها وابعدته شاباً تحتفل بمئويته الآن وكأنه شيء مثل نهر الليفي.

النجاح اتكاء لا اتكال. كتف تتكئ على اخرى. الاتكاء سر الحياة والاتكال طريق الغناء. لا تقبل الحياة بقاعدة اخرى. حتى عندما تمطر ذهبا يجب ان تقوم لكي تلمَّه. وقد كانت في الفنون مواهب كبرى كثيرة، حرمها سوء الطالع ممن يرعاها ويصقلها. ولو لم يرزق عاصي ومنصور بأستاذ موسيقى يفجر موهبتهما لبقيا في سلك الشرطة البلدية. الاول في انطلياس والثاني في بيروت. ومن ذكريات وتعابير تلك الطفولة صنعا فيما بعد مسرحهما وألحانه وكلماته.

أعظم ثنائي في النجاح، الموهبة وأستاذها. لقد فقدنا في العالم العربي صناعة الاستذة وفن الاتقان. وكان خلف اي مطرب فرقة كاملة من الموسيقيين لا تبدأ العزف الا بعد «دوزنة» كل وتر في كل آلة. الآن لم يبق من الفرقة سوى الطبَّال وعازف القانون، وكل الباقي في الارغن الكهربائي الذي لا روح فيه ولا حياة ولا حفناوي. والحفناوي كان الكمنجاتي في فرقة ام كلثوم. وكان فقيراً مثل فناني الزمن الطيَّب. كما كان على الارجح حريصاً بعض الشيء، لا يغير ربطة عنقه. وذات مرة قال له عبد الوهاب مازحاً: «تبيع الكرافتة دي بخمسة جنيه»؟ فقاطعت ام كلثوم فوراً: «خمسة جنيه؟ دي عليها زيت بعشرة جنيه».