جاك دريدا والتنوير: مستقبل الإسلام والعرب والعالم

TT

كنت أغالب النوم ذلك اليوم وعلى وشك أن أطفئ التلفزيون في ساعة متأخرة من الليل، عندما رأيت وجه جاك دريدا يرتسم فجأة على الشاشة وهو يستعد لمناظرة ريجيس دوبريه ويرد على أسئلة الصحافي المسؤول عن البرنامج. فقلت هذه مأدبة ثقافية دسمة لا ينبغي أن أفوتها على نفسي، حتى ولو كنت ميتاً من النعاس!. وهكذا تابعتها حتى آخر لحظة، على الرغم من طولها، ولم أندم على ذلك. فدريدا الذي لا أحبه عادة كثيراً، أعجبني ذلك اليوم من الأسبوع الماضي. فقد اعترف لأول مرة بأهمية التنوير، وأن المشكلة هي التالية: العالم الإسلامي لم يشهد التنوير حتى الآن، كما حصل في أوروبا، لذلك فإن الصدام حاصل بينه وبين الغرب حالياً. وسوف يظل هذا الصدام مستمراً ما دام نظام القيم العليا أو المرجعيات مختلفاً أو متناقضاً في كلتا الجهتين. ففي جهة الغرب، تسيطر المرجعية الفلسفية والسياسية الحديثة التي فصلت الفكر الديني عن السياسة. وفي جهة العالم العربي أو الإسلامي، لا يزال هذا الفصل مستحيلاً حتى الآن.

لكن دريدا حذّر من الخلط بين بن لادن والجماعة الظلامية من جهة، وبين عموم العرب والمسلمين من جهة اخرى. ففي العالم العربي توجد تيارات فكرية عديدة، ويوجد مثقفون حديثون وأساتذة جامعات وصحافيون وشعراء وروائيون وكتّاب عديدون لا علاقة لهم بذلك التيار المتزمت الذي أعلن الحرب على العالم كله من منطلق القرون الوسطى المظلمة.

ثم عبّر جاك دريدا عن غضبه على إدارة بوش وسياستها وتأثير الأصولية البروتستانتية على بعض توجهاتها، لكنه هنا ايضا حذّر من وضع بوش وبن لادن على المستوى نفسه. ووافقه على ذلك ريجيس دوبريه، ففي رأيه أنه لا يوجد أي أمل أو مستقبل في جهة بن لادن وتياره. ولا توجد أي إمكانية للنقاش أو الحوار أو تعديل المواقع والآراء. وأما في جهة بوش فتوجد على الرغم من كل شيء إمكانية للتحسّن وتطوير المواقع الفكرية والسياسية.

لقد أثلجت صدري تصريحات جاك دريدا في أواخر ذلك الليل، فلأول مرة أسمعه يلفظ كلمة التنوير بمثل هذا الوضوح والصراحة، والواقع أنه كان ينبغي ألا أُصاب بالدهشة أبداً، كان ينبغي أن أعتبر الأمر طبيعياً، بل وتحصيل حاصل، فما هو وجه الغرابة في أن يدافع فيلسوف كبير عن التنوير والعقلانية؟..

وهل يمكن أن يدافع عن غير ذلك؟ للأسف نعم!، فالأمور ليست بمثل هذه البساطة، ولا يمكن أن يفهمها بشكل دقيق إلا المطلع على خفايا الساحة الثقافية الفرنسية والأوروبية والأميركية، وربما كنا بحاجة إلى مجلدات لكي نشرح للقارئ العربي خلفيّات هذه المسألة، لكن لنكتف هنا بالخطوط العريضة.

ينبغي العلم بأن فلاسفة ما بعد الحداثة، أي دريدا، وجان فرانسوا ليوتار، وجيل ديلوز، وميشيل فوكو، وتلامذتهم من الأميركان والأوروبيين الآخرين، بل وحتى العرب، كادوارد سعيد مثلا، كانوا قد بالغوا في نقد الحداثة ومنجزاتها وراحوا يتهمونها بالاستعمار والامبريالية والتوسع والهيمنة، أو قل راحوا يختزلونها إلى مجرد ذلك فقط، وحاولوا القفز على الحداثة إلى ما بعد الحداثة، بحجة أن الأولى هي سبب اندلاع الفاشية والنازية والغولاغ والمحرقة اليهودية.

وقال جان فرانسوا ليوتار، بأن الأساطير الكبرى للتنوير والمشروع الغربي الليبرالي والماركسي، قد سقطا وفشلا فشلاً ذريعاً، بل ووصل الأمر بمدرسة فرانكفورت من قبله، أي فلسفة ادورنو وهوركهايمر، الى اتهام العقل بانه سبب كل الكوارث والمجازر التي حصلت في القرن العشرين، وراحوا يتحدثون عن كسوف العقل أو أفوله النهائي بعد ان وصل بالغرب والعالم كله الى هذا المصير، وراحوا ينسبون الى فوكو ان التنوير الذي خلق الحريات هو الذي خلق السلاسل والأغلال ايضا، فالحضارة التي شُيِّدت على مبادئ التنوير أوصلتنا إلى مجتمعات بوليسية مراقبة بشكل كامل من خلال أجهزة خفية تسيّر الأمور من خلف الستار أو الضغط على الأزرار.

ووصلنا الى المجتمع البوليسي ـ الكابوسي، الذي حلم به جورج اورويل أو خاف منه حتى قبل أن يتحقق، ومن كثرة ما نقدوا الحداثة أصبحنا نحنّ إلى فترة العصور الوسطى ونحلم بالعودة إليها!

ثم أن جاك دريدا يبني كل فلسفته في الستينات والسبعينات على تفكير العقلانية المركزية الغربية من افلاطون وارسطو وحتى كانط وهيغل، وعندئذ انتعشت التيارات اللاعقلانية التي تنسب نفسها إلى نيتشه وتستهزئ بالميراث العقلاني لعصر التنوير، ومن يتحدث عن التنوير عندئذ كانوا يتهمونه بأنه متخلف أو رجعي!، وفجأة تنقلب المواقف والمواقع، بل وتصبح عكس ما كانت عليه، فما الذي حصل يا ترى؟. في الواقع ان فوكو في أواخر أيامه، كان قد غيّر موقفه من الحضارة الغربية، وعاد إلى حظيرة التنوير من خلال شرحه الشهير لنص كانط: ما هو التنوير؟، وعندئذ راح ينسب نفسه إلى ميراث كانط النقدي العقلاني لأول مرة، وقد أدهش ذلك فلاسفة كثيرين ليس أقلّهم يورغني هابرماس. فهل شعر بتأنيب الضمير لأنه أمضى حياته كلها في نقد الحداثة وتعريتها اركيولوجيا، وهل أراد أن يعتذر عن تحمّسه المتسرع للثورة الخمينية عام (1979)، عندما ذهب إلى إيران كصحافي فوق العادة لصالح النوفيل اوبسرفاتور وإحدى الجرائد الإيطالية؟ البعض يقول بأنه ارتكب أكبر حماقة في حياته عندما أيّد ثورة سياسية قائمة على أكتاف رجال الدين وفكر القرون الوسطى بنسخته الشيعية. ويقال بأنه اختفى عن الأنظار ولم يعد يخرج من بيته لفترة طويلة خجلاً من الناس بعد أن رأى المصير الذي آلت إليه هذه الثورة على أيدي الجزارين والمحافظين. والبعض الآخر عذره لأن الطابع الشعبي والعفوي لهذه الثورة، كان هائلاً ويجذب الإنسان إليها غصباً عنه.

مهما يكن من أمر، فإن انفجار الحركات الأصولية في العالم العربي والإسلامي وتتويج كل ذلك بضربة 11 سبتمبر، جعلا فلاسفة ما بعد الحداثة محشورين في الزاوية، ومن بينهم فيلسوف متطرف في نقده للحداثة والتنوير هو: جان بودريار. وعندئذ عاد التنوير إلى ساحة الاهتمام من جديد، وارتفعت أسهمه ولم يعد أحد يتجرأ على نقده وتفكيكه كما كانوا يفعلون سابقاً، وقالوا: إما التنوير وإما فكر القرون الوسطى. إما ابن رشد أو كانط أو هيغل وإما بن لادن! فمن يتجرأ على الخيار الأخير؟، حتى جان بودريار لا يستطيع أن يفعل ذلك، على الرغم من كرهه لبوش وأميركا والغرب كله.

ضمن هذا السياق العام يمكن ان نفهم تصريحات جاك دريدا الأخيرة، ولهذا السبب فإنه وقّع مؤخراً كتاباً مشتركاً عن 11 سبتمبر مع فيلسوف التنوير الأكبر في هذا العصر: يورغين هابرماس، وقد صدر أولا بالأنجليزية تحت عنوان شديد الدلالة: الفلسفة في زمن الإرهاب والرعب، ثم ترجم إلى الفرنسية هذا العام تحت عنوان آخر لم يعجبني كثيراً، لأن فذلكة جاك دريدا أو سفسطته بادية عليه: «مفهوم 11 سبتمبر.. حوارات في نيويورك مع دريدا وهابرماس».

هل يعني ذلك ان كل ما فعله فلاسفة ما بعد الحداثة كان خطأ؟ هل يعني ان التنوير معصوم عن الخطأ ولا ينبغي نقده بأي شكل؟، بالطبع لا. وهابرماس ينقده بشدة ايضا، اقصد ينقد تجربته على مدار القرنين الماضيين وتحوله في لحظة ما إلى مشروع انتهازي توسعي استغلالي على يد طبقة قائدة ومتغطرسة هي طبقة البورجوازية الرأسمالية التي لا تشبع، لكن هذا النقد لا ينبغي أن يطيح بالمكتسبات الإيجابية الأساسية للحداثة: أي الحكم الديمقراطي، والحرية الدينية، ودولة الحق والقانون، ولا ينبغي بأي شكل أن نساوي بين مجتمعات ما قبل الحداثة ومجتمعات الحداثة، مجتمعات القرون الوسطى القائمة على التكفير والذبح، ومجتمعات الحداثة القائمة على فلسفة التنوير ونقد كل الأنظمة الانغلاقية بما فيها النظام المسيحي بالطبع. فالقديس سان برنار الذي عاش في القرن العاشر الميلادي كان يقسّم البشرية ايضا الى مؤمنين وكفار. والمؤمنون في نظره هم وحدهم اتباع الدين المسيحي، وأما ما عداهم فيحق قتلهم واستئصالهم، بل ان ذلك واجب شرعي على كل مؤمن لأنه يقرّبه من الله عز وجل!..

فهل هذا هو العصر الذهبي الذي يريد فلاسفة ما بعد الحداثة العودة إليه؟..

في آخر مقابلة له، يقول الفيلسوف بول ريكور بأنه تجول في شتى أنحاء العالم من الصين إلى اليابان إلى مناطق اخرى، ووجد ان الحضارة الأوروبية هي وحدها التي تسمح بحرية الفكر والنقد بالمعنى الواسع والجذري للكلمة. ففي كل مكان هناك قيود على حرية الفكر والضمير ما عدا في أوروبا.. وهنا تكمن خصوصية التنوير وعظمته كمشروع حضاري لا مثيل له في تاريخ البشرية. ويرى هذا الفيلسوف المؤمن، نعم المؤمن لكن بالمعنى الروحاني أو الميتافيزيقي العميق للكلمة، ان أعظم شيء حققته أوروبا هو التالي: تحرير السياسة من ربقة اللاهوت ثم تأسيس العقل والروح النقدية كذروة عليا تعلو ولا يُعلى عليها.