وهم عالمي اسمه السيادة

TT

تتميز مرحلتنا الراهنة بشكل لا يدع مجالا للشك، بانحسار شامل وعميق للفكر وللممارسة المنبعثين من اعتبار مبدأ السيادة الوطنية معياراً أساسياً لمسلك الدول السياسي. ولا يتوازى وعي هذا الانحسار مع مداه بل مع عمق درجته. ولا يمكن القول إنه تمّ استيعاب مسببات هذا الانحسار الفعلية وآثاره في التجربة العراقية الماثلة أمام أعيننا، بل غالباً ما ترى إصرار البعض، بطروحاته المبسطة، على إثارة العواطف والأهواء الجامحة، من دون النظر إلى التطورات الأخيرة التي أعادت لمفهوم السيادة طابعه النسبي الأصيل، ونأت به بعيداً عن طابعه المطلق.

هذه الفكرة حملت معها تطوراً جذرياً في وظيفة الدولة: فبدلاً من أن تكون الدولة أداة توسّع وتسلّط وقمع على الآخرين، تحولت إلى خدمة المجتمع المدني كأفضل وسيلة لحل مشاكله المستجدة، وتخطيط عملية التنمية والتقدم من أجل مستقبل أفضل لأفراده.

المثال العراقي الذي نسوقه هنا، قد يكون حاداً بصفة خاصة، ولكنه بالتأكيد ليس استثنائياً. نقول هذا، لأن مفهوم السيادة ظل أسير الدراسات القانونية، وغاب فترة طويلة عن التحليل السياسي ـ الاجتماعي، حيث يتلقى طالب القانون، وهو على مقاعد مرحلته الجامعية الأولى، تعريفاً للسيادة الوطنية باعتبارها رديفاً مطلقاً لصيرورة الدولة الحديثة، وأن أي مساس بهذا المفهوم يعد شكلاً من أشكال الخروج عن المألوف الشرعي، أو ربما بعضاً من وقود حرب.

من هنا بالذات، ليس التساؤل عن مفهوم السيادة، لدى عراقيي اليوم، ترفاً; إنه في صلب خيارات استراتيجية سيصعب علينا العودة عنها، بل إنه في أساس جروح قد يستحيل علينا في القريب بلسمتها.

أول ما يجدر التشديد عليه هنا، أن علينا أن نقبل، طوعاً أو كرهاً، بإعادة النظر في مفهوم السيادة الوطنية، ليس لأن وظيفته قد تغيرت جذرياً بعد انتهاء الحرب الباردة فحسب، بل لأن السلطات العراقية المتعاقبة منذ العام 1958 قد أفادت منه أكثر من اللازم، فحاولت أن تجعله مطلقاً في الاستفراد بشبعها، تفعل به ما تشاء وتوظف خيراته كما يحلو لها.

وعلى نحو ما اختصرت هذه السلطات المجتمع العراقي، الذي استولت عليه وأسلم إليها قياده في أسمائها وشخوصها وسياساتها، اختصرت الحروب والمجازر الجماعية التي توالد بعضها من بعض الهياكل السياسية والاجتماعية والثقافية العراقية، إلى معان شحيحة صبت في الإجمال بمفهوم السيادة، التي لم تكن، في واقع الحال، سوى تسلط عام على الحكم والإدارة والمرافق الاقتصادية والقضاء والجيش والثقافة والتعليم والنقابات والإعلام، واختصارها السياسة إلى فعل القوة والتحكم، وزعمها القدرة على أن تحيي وتميت على المثال البابلي القديم.

وبرسم التمترس وراء السيادة، تحولت الدولة العراقية بين أيدي النخب الحاكمة إلى عبء ثقيل على المجتمع الذي تسوسه عنوة: فمن عامل مساواة، أصبحت عامل تفاوت بين المواطنين، سواء في المرتبة أو الدخل أو الحقوق; ومن عامل توزيع أصبحت عامل جمع واحتكار للسلطة والتمثيل; ومن عامل حماية لاستقلال مرافق الحياة العامة، غدت أشد عدو للاستقلال.

هكذا تشتت معنى السيادة في التاسع من أبريل (نيسان) 2003 ، مع تشرذم المسمى، وانكسر المعنى مع انهيار النظام. فما الذي أحدثه هذا المتغير على المفهوم إجمالاً؟

يبدو للوهلة الأولى، أن الإجابة المناسبة تتمثل في أن هذا المتغير قد أضفى بعداً جديداً في العلاقات التقليدية القائمة بين الدول، بحيث تضاءل دور الدبلوماسية التي تؤكد على المفهوم «السيادي» لها، وتعاظم في المقابل نوع من «إعادة توزيع» القوة على الصعيد العالمي; فقد بات من العبث أن نتحدث عن سيادة مطلقة لدولة ما على شعبها، في مواجهة قوة عظمى ارتأت أن تتدخل عسكرياً في محاولة لإعادة السياسة إلى المجتمع، وإعادة إنتاج مؤسسات الدولة وآليات عملها على نحو مغاير، بما يتماشى مع التحولات الجارية على صعيد المعمورة.

وبالطبع، لم يكن التفاوت في القوة هو المصدر الوحيد للتحول المفهومي العميق الأثر لـ«سيادة» الدولة، على الرغم من حالة الارتباك التي لا تحجب على الناظر، فثمة ما أفرزته تجليات ثورة الاتصالات المتسارعة، التي بلغت حداً غير مسبوق في تهميش مفهوم السيادة الوطنية، من خلال تقليص السيطرة على الحدود، وتفاقم الاختراق الإعلامي للكيانات السياسية، على نحو يؤدي إلى إشاعة مفاهيم المواطنة، وسيادة القانون، وحرية الفرد، وحقوق الإنسان، والمشاركة السياسية، والتداول السلمي للسلطة، وغيرها من المفاهيم التي كان يسهل الحجر عليها، وينأى بها عن أي تأويل يضعها في تضاد مع الدولة الوطنية، أو يجعل منها آلية من آليات انتقاص سيادتها.

أما التحول المفهومي الثالث للسيادة، فيتعلق بالتطورات في بنية نظام السوق، التي قلصت تدريجاً، تحكم الدولة في الاقتصاد، وبالتالي بالمجتمع. لقد أصبح «الإصلاح الاقتصادي» و«التكيف الهيكلي» بالنسبة للدول الأخرى، شرطين ضروريين للدخول في المنظومة الاقتصادية الدولية. أضف إلى ذلك، أن سيادة الدولة على قراراتها الاقتصادية، آخذة في التقلص مع إقرار اتفاقية منظمة التجارة الدولية، التي قضت بالإزالة التامة لأي عوائق أمام التدفق السريع للسلع والخدمات.

يضاف إلى هذا التحول المفهومي، تحول آخر يقضي على «سيادة» الدول أو على الأقل ما تبقى منها، ويتمثل أساساً في قيام بنى «إقليمية» تؤدي بالضرورة إلى تشكيل كيانات فيدرالية ما فوق الوطنية. وإذا كان الأوروبيون تجاوزوا مبدأ السيادة لمصلحة اتحادهم في الصناعة والزراعة وصولاً إلى توحيد العملة، فثمة مناطق أخرى من العالم شهدت هي الأخرى، نوعاً من الاندماج الإقليمي كمنطقة «التبادل الحر في شمال أميركا»، و«مجموعة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، وهذا كله يعني أن السيادة لم تعد تعني السيطرة على مساحة معينة من الأرض، بقدر ما تعني إيجاد آلية للحصول على موقع أفضل على الخريطة الدولية. في خضم هذه التحولات المفهومية للسيادة الوطنية، ثمة من يطرح صيغاً جديدة لهذا المفهوم، في ظل حالة الانحسار التي تشهدها الدول «ذات السيادة»، من بينها إيجاد هيئة دولية تضبط آليات عمل العولمة، كأن يصبح الأمين العام للأمم المتحدة مثلاً، «رئيس العالم»، والجمعية العامة بمثابة «برلمان عالمي»، أما مؤسسات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة الغذاء والزراعة الدولية، فهي بمثابة «وزارات» في الحكومة المقترحة، وهذا كله يعني أمراً أساسياً واحداً وهو أن تتخلى «الدول» عما تبقى لها من «سيادة».

باختصار، لم تكن «سيادة» الدولة الوطنية يوماً سوى«عشبة الخلود» تتملك البعض نزعة الاستقواء بها على مجتمعه كي يستمر بالتحكم في مصيره، وليس بقصد مقاومة مشاريع الهيمنة والوصاية والتدخل. بهذا المعنى، فإن السيادة هي مفهوم إيديولوجي إلى حد كبير، وإن هي تميزت بشيء واحد، فهو بالفعل انعدام شفافيتها.

* أكاديمي من العراق مقيم في فيينا