مهتمون بأمور كثيرة ... والمطلوب واحد

TT

زيارة لبنان متعة نفسية حتى في الأيام الحالكة السواد ـ لا أعادها الله عليه ـ، فكيف عندما يكون الأمن مستتباً والتفاؤل ظاهراً، بمبرر او من دون مبرر.

اكيد ثمة سلبيات كثيرة تشاهدها بأم العين وتسمع عنها من كل مواطن وكل مسؤول تقابله، وطبعاً هناك ايجابيات عديدة. والحق ان اجراء «جردة» حساب للسلبيات والايجابيات مسألة لا تخلو من صعوبة. والسبب المباشر هو ان اللبناني بصفة عامة يطلب الكثير لكنه ليس مستعداً لدفع ثمن ما يطلبه، او لعله يجهل ان ما يطلبه له ثمن ... مثل أي شيء في هذه الحياة. فاللبناني يطالب، مثلاً، بالحرية. الحرية تقرأ عنها في كل الصحف اللبنانية لكن أحداً لا يجشم نفسه عناء تعريف الحرية، وربطها بالمسؤولية، كما شاهدناها تعاش في دول اوروبا الغربية، أكثر دول العالم حرية وتحرراً.

يطالب بالديمقراطية إلا أنه يحور ويدور ويكرّر الدوران حول مبدأ الديمقراطية (بمضمون المحاسبي خصوصاً)، ثم يتجاوزه، ويرمي مسؤولية «حرمانه» من الديمقراطية على «مجهول»... معروف.

يهاجم الطبقة السياسية ويسير خلف شعاراتها. وينتقد سلطان المال لكنه يجري جرياً وراء الاستفادة منه.

كل هذه التعقيدات والتناقضات أضحت جزءاً لا يتجزأ من المشهد السياسي اللبناني. فما يريده حنا يرفضه حنين، واذا ما رضي به حنين يشكك حنا بما كان يريده هو أصلاً.

النغمة السائدة الآن في الشارع ما اذا كان سيُجدَّد او يُمدَّد لرئيس الجمهورية العماد اميل لحود، ام لا. الكثير يُهمس ويُقال بل ويُكتب، لكن بعد متابعة كل ذلك تتجمد المعطيات عند نقطة البداية.

ما هو واضح أن قطاعاَ من المسيحيين ضد الرئيس لحود. وما هو مقبول ضمنياً ان دمشق، التي هي احد أهم الناخبين الاقليميين وأكثرهم نفوذاً في لبنان، ترتاح للرئيس وتثق به. وما يرشح من أطياف الطبقة السياسية اللبنانية ان للحود من الخصوم بقدر ما له من المناصرين ... لأسباب متنوعة.

لكن ثمة نقطة أخرى، جديرة بالملاحظة لكنها لا تحظى بقدر تستحقه من النقاش، هي مؤهلات الرئيس العتيد، وبرنامجه السياسي. فلا أحد مستعد للخوض في نقاش جدي حول «الأرضية» السياسية للمرشح الرئاسي ازاء تفاصيل «الوفاق» المختلف بشأنه منذ بعض الوقت. ازاء الحريات العامة. ازاء العلاقات مع سورية. ازاء المناخ الاقليمي الملبد بالغيوم.

اليوم مناصرو رئيس الجمهورية ينتقدون رئاسة الحكومة والمحسوبين عليها. ومؤيدو رئيس الحكومة يلقون اللوم على رئيس الجمهورية ومن يحيط به من جماعات بعضها ممثل بحصص كبيرة في التشكيل الحكومي ذاته.

لا أحد يقر صراحةً بأن الحكومة الحالية جاءت حصيلة «توافق سياسي» عريض فضفاض لا تعبيراً عن «برنامج سياسي» لاتجاه محدد. أي أنها بلغة السياسة في الدول الديمقراطية عبارة عن «برلمان مصغر» يتكون من مجموعة أطراف وافقت على أوهى القواسم المشتركة في ظل ظرف خاص.

هذا الظرف الخاص في لبنان قام حتى الآن على عنصرين: أولاً، المحافظة على ما يمكن المحافظة عليه من «الوفاق» (ولو نفاقاً) لتجنب محظور الانزلاق من جديد الى هاوية الحرب الأهلية. وثانياً، التفاهم على طبيعة العلاقة الايجابية مع سورية.

غير ان هذين العنصرين يدخلان الآن متاهة خطرة في ظل التطورات الداخلية وبخاصة ما يتصل بالضائقة الاقتصادية وموضوع الحريات العامة والتغير الديموغرافي، والتطورات الاقليمية ـ الخارجية المتمثلة بهجمة واشنطن على المنطقة لفرض «سلام المحافظين الجدد» وردي الفعل السوري والاسرائيلي عليها.

نظرياً، المدخل المبدئي للخروج من هذه المتاهة، بأقل قدر من الخسائر، يعتمد على ثلاث جهات ... ثالثتها الناخب الأميركي الذي بيده وقف هجمة «المحافظين الجدد» أو دعمها يوم 2 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.

أما الجهة الأولى فالمواطن اللبناني الذي عليه ان يدرك انه مهدد بفقد كل شيء ما لم يسعَ فعلياً بنية صادقة وقلب مفتوح نحو «وفاق» حقيقي يحصّن الوضع الداخلي. وأما الجهة الثانية، فدمشق التي عليها اليوم، في ظل اشتداد الضغط الخارجي عليها، أكثر من أي وقت مضى التعامل مع المشهد اللبناني بقدر اكثر من العقلانية والتسامح.

بكلام آخر، استمرار ظاهرة العلاقات «التكتيكية» بات يهدد بإلحاق ضرر بالغ بلبنان وسورية معاً (بالذات في ظل نشاط بعض الدوائر في واشنطن) ... والمطلوب انفتاحٌ صادقٌ وواعٍ بالاتجاهين.