خواطر 23 يوليو

TT

يوم من التاريخ اصبح الآن بعيدا جدا في تاريخ. نصف قرن في حياة الأمم ليس نصف قرن في حياة فرد. و23 يوليو اصبح بعيدا. هو وصاحبه ومصطلح الثورة. لكنه لا يظل عنوان النظام. مثل اسم علم لأسرة واحدة تتغير فيها الطباع والمكونات والظروف. سمى شارل ديغول دولته الجمهورية الخامسة العام 1958. ولا يزال الاليزيه يحافظ على الاسم. لكن في غضون الرحلة صار على زعامة الجمهورية وأمانتها المسيو فرنسوا متيران، كبير خصوم الجنرال ومنافسيه. ألغى نيكيتيا سيرغيفتش خروشوف جمهورية ستالين لكنه فكك الستالينية قطعة قطعة.

23 يوليو الذي اعلنه جمال عبد الناصر اصبح بعيدا الآن. وفي اوائل هذا الشهر نشر ابناء جمال عبد الناصر الثلاثة خالد وعبد الحكيم وعبد الحميد اعلانا مدفوعا في الصفحة الأولى من «الاهرام» لكي يرحبوا بسلامة الرئيس حسني مبارك، الرئيس الرابع منذ الثورة التي فتحت باب الحكم أمام «الضباط الأحرار».

لا يبقى شيء في الأرض على صورة مؤسسه. سواء كان النظام رئاسيا دستوريا مثل النظام الفرنسي او ديكتاتوريا مثل النظام السوفياتي. الدنيا تتطور وتتغير دون ان تستأذن المنتظرين في المحطات. و23 يوليو كانت تجربة ثالثة في الأنظمة. تجربة قائمة في الأساس على المثاليات ونقاء صاحبها السياسي. ولكنها ما لبثت ان انزلقت الى متاهات ودوامات لفَّت معها العالم العربي بأسره. بدأت ثورة ضد الفساد في مصر وضد «الامتيازات» المهينة التي كان يملكها الأجانب، وبدأت حلما في استعادة مصر ونيلها وارضها. وكانت الامتيازات تعني انه لا يمكن محاكمة مجرم يوناني او ايطالي بإلا بالاذن من قنصله. وأمام محكمة خاصة. ويروي الكاتب البريطاني ايفور ايفانز انه كان في القاهرة صيف 1924 عندما سقطت هرة على شرفة رجل ايطالي ونفقت، ثم انتنت. والرجل غائب في نابولي، وكذلك قنصل ايطاليا. ولم تستطع الشرطة المصرية دخول الشقة إلا بعد عودة القنصل. وهرب الجيران من الرائحة.

لقد وصل جمال عبد الناصر الى السلطة في وقت كانت فيه السياسة الداخلية المصرية مثل قطة سقطت على غرفة ايطالي. كل شيء مهترئ. والفساد فوق الأرض وتحتها، كما هو الآن في لبنان، حيث يقول السيد حسن نصر الله ان ازاحة الاحتلال اسهل بكثير من محاربة الفساد. كانت كل الطبقات في مصر فاسدة او عاجزة. والطبقة الوسطى لا وجود لها. والاحزاب الرئيسية على خلاف مع القصر، والقصر على خلاف مع بريطانيا. وبريطانيا تحكم بالتعالي والازدراء شعبا اراد طردها بزعامة احمد عرابي. ولم تغفر له ذلك. ولا تواضعت قليلا لكي تتأمل الوقائع على ارض كانت مهد الدولة الأولى في التاريخ. وغريب قدر مصر. غريب انه لم يحكمها مصري من قبل. وغريب ان اليتيم الألباني محمد علي، الذي خسر 17 شقيقا للمرض والفقر وظل حياً، ولما صار ملكا على كنز النيل رفض ان يتعلم لغة مصر واهلها وإلقاء التحية على فلاحي الترع وبسطاء توفيق الحكيم.

وجد جمال عبد الناصر (بعد محمد نجيب) انه اول حاكم مصري على مصر. قروي صعيدي اقصى ترف في حياته انه يعشق السينما. ولذلك قيل ان الذي سحره في محمد حسنين هيكل دون سواه، على ذمة صافيناز كاظم، ان هيكل يكتب مقالاته على طريقة السيناريو. ووجد عبد الناصر في الجيش مؤسسة قادرة على قلب فاروق، لأن الاحزاب كانت قد اقامت اتفاقا ضمنيا مع السلطة. تغضب وترضى وتناور، ما بين الملك والانكليز. ولكن في ظل النظام. وكان رجال مثل سعد زغلول او مصطفى النحاس او الهلالي، يبدون مرة في اقصى الوطنية ومرة في تواطؤ مع الانكليز. ولذلك وجد عبد الناصر ان الجيش هو الحل. وانتقى الضابط الاكثر شعبية في الجيش، محمد نجيب، يجعله واجهة الانقلاب الذي سوف يسميه الثورة. ولا شك انه سرعان ما اصبحت لها شرعية الثورة المدعومة من الناس. لكنه مصطلح استعاره العرب في امكنة اخرى لكي يصلوا به الى التسلط ويمارسوا من خلاله افظع انواع الاستبداد. لقد رفض عبد الناصر قتل فاروق. وودعه كملك وقائد اعلى للجيش، فيما ذبحت «ثورة 14 تموز» العائلة المالكة في العراق وسحلت اهل النظام وقصبت نوري السعيد وسمت القصر «قصر النهاية».

الى اللقاء.