المسكوت عنه في المشهد الإسلامي ببريطانيا

TT

اكتشفت في لندن هذا الاسبوع وجها للمسلمين بدا مفاجئا لي، ذلك انني غبت عن المدينة حوالي خمس سنوات، كنت خلالها أتابع أخبار المسلمين في بريطانيا من خلال ما تنشره أو تبثه وسائل الاعلام المختلفة، ولا أخفي ان جانبا من تلك الصورة كان سلبيا، وأحيانا مستقربا وباعثا علي الاستياء، فقد كانت أكثر الصور التي تنشر للرموز الاسلامية في لندن، لأناس غاضبين ومنفرين، ومحل اشتباك واتهام دائمين مع مؤسسات الدولة ونظامها، أما الكلام الذي يصدر عنهم أو ينسب إليهم ـ وتبرزه وسائل الاعلام ـ فهو إما عن اقامة الخلافة في انجلترا أو رفض طاعة الحكومة الكافرة ومقاطعة الانتخابات التي تجريها، أو الاعداد لإعلان الجهاد، واسقاط الطائرات المعادية عبر اطلاق كم كبير من البالونات لارباكها، الي غير ذلك من الأفكار التي تراوحت بين السذاجة المفرطة والغباء المستحكم.

لست أتحدث عن إبراز هذه الصور والعناوين في بعض وسائل الاعلام البريطانية، فذلك مما لا يستوقف أحدا أو يدعو الى الاستغراب، خصوصا ان في انجلترا صحفا تبيع بالاثارة دائما، ومنها ما هو خاضع للسيطرة الصهيونية، ومن ثم كاره للإسلام والعرب والمسلمين، ويتحين أي فرصة، أو يفتعلها لكي يقدم هذه الدائرة كلها في أتعس صورة وأبأسها، لكني أتحدث عن وسائل الاعلام العربية، المقروءة والمرئية بوجه أخص، التي ما برحت تسلط الضوء علي تلك الجوانب السلبية، علي نحو يعطي انطباعا بأن هذه هي صورة المسلمين في بريطانيا، الأمر الذي يسوغ بدرجة أو أخرى أي اجراء يتخذ ضدهم، حتى ولو كان تعسفيا، وهو ما جعلني أتشاءم ذات مرة، ودفعني الى القول ان استمرار تلك الممارسات البائسة يمكن أن يهدد الوجود الاسلامي، ليس في بريطانيا وحدها، بل في أوروبا كلها. فاذا كان المسلمون قد جاءوا الى تلك البلدان لكي يقيموا الخلافة، ويتحدوا نظمها وقوانينها، ويشيعوا التوتر فيها، فمن الطبيعي أن تلفظهم المجتمعات التي وفدوا إليها، وأن تَضِيقَ السلطات المعنية بهم، وان تسعى للتخلص منهم بكل وسيلة، ومعلوم أن هناك أحزابا وتيارات معادية تسعى الي ذلك الهدف وتتحدث عنه صراحة، خصوصا في ثنايا الحملات الانتخابية.

أدري أن تلك النماذج البائسة موجودة حقا في مجتمعات المسلمين المهاجرين، وان وسائل الاعلام لم تصنعهم، ولكن السؤال هو: ما حجمها الحقيقي، وهل تشكل استثناء أم قاعدة، وهل هذا هو الوجه الوحيد أو الأبرز لأولئك المسلمين أم أن ثمة أوجها أخرى لتلك المجتمعات؟

المفاجأة التي وقعت عليها تمثلت في اكتشافي ان صورة المسلمين في بريطانيا أعرض بكثير من تلك البؤرة الصغيرة التي تسلط وسائل الاعلام الضوء عليها، بل ان تلك الصورة العريضة حافلة بعناصر الثراء والعافية، التي تبدد مسحة التشاؤم التي تهيمن علي الادراك، من جراء تكثيف الضوء على ما هو شاذ وسلبي في واقع المسلمين ببريطانيا.

حين أتيح لي أن أقترب أكثر من الصورة في انجلترا، وجدت ان المسلمين الذين يتجاوز عددهم ثلاثة ملايين شخص أصبحوا يرسمون على الأرض البريطانية خريطة العالم الاسلامي كله بكل أقطاره وتنوعاته. على أيامنا ـ قبل عشرين عاما ـ كانت الأغلبية لأبناء شبه القارة الهندية، ورغم ان هؤلاء لا يزالون يتمتعون بحضور قوي في بريطانيا، إلا ان تزايد الهجرات من بقية دول العالم العربي والاسلامي خلال العقدين الأخيرين أضاف أعدادا كبيرة نافستهم في الحضور، وهو ما أدى الي امتلاء الساحة بمختلف المنظمات والجمعيات (البعض يقدرها بـ 500) تشكلت خصيصاً لترعى شؤون تلك الجاليات، بدولها وأعراقها ودياناتها ومذاهبها، وهذه المنظمات أصبح يجمعها إطار موحد هو المجلس الاسلامي البريطاني، ولم يكن في ذلك جديد، إنما الجديد تمثل في ظهور كيان جديد باسم الرابطة الاسلامية ـ انضم تحت مظلة المجلس ـ لكن مؤسسيه كانوا يفكرون بطريقة مغايرة في رعاية مجتمع المسلمين وليس فئة بذاتها، من ثم شغلتهم مسألة المشاركة في العمل العام وخوض المعترك الانتخابي، اعتمادا على الصمود الاسلامي الذي يتزايد وزنه حينا بعد حين.

وجد هؤلاء ان للمسلمين حوالي مليون ونصف مليون صوت، إذا تم تجميعها وأُحسِنَ توظيفها، فانه يمكن تحويلها الى قوة انتخابية يعمل لها حسابها، ادركوا أيضا ان المسلمين يتركزون في مدن بذاتها، ويشكلون فيها ما بين 10 و20 في المائة من السكان (لندن، برمنغهام، ليستر، مانشستر، برادفورد، ليدز، ليفربول.. الخ) بل ان نسبتهم في منطقة تاور هاملت في شرق لندن وصلت الى 38 في المائة، اغلبهم من البنجاب.

لاحظوا كذلك ان المسلمين الذين يشكلون 3 في المائة من سكان بريطانيا يمثلهم عضوان فقط في مجلس العموم، بينما اليهود الذين لا يزيد عددهم عن نصف في المائة، لهم 80 عضوا برلمانياً، والمفارقة التي برزت في هذا الصدد اكتشافهم ان المسلمين قادرون على حسم المعركة الانتخابية لصالحهم في 80 دائرة !

كانت الرابطة الاسلامية قد تشكلت عام 1997، من مجموعة من المهنيين المسلمين المتجنسين، الذين ظلوا طيلة السنوات اللاحقة يدرسون أوضاع المسلمين وتوزيعهم، وكيفية تجمعهم لمواجهة الحملات التي تستهدفهم فتشوه صورتهم وتنال من عقيدتهم.

انشأت الرابطة الاسلامية موقعا لها على شبكة الإنترنت للتواصل مع المسلمين وغيرهم، وأقامت تحالفا مع التجمع البريطاني المعارض للحرب علي العراق، ودعا الطرفان في منتصف فبراير(شباط) من العام الماضي الى مظاهرة لإعلان رفض الشعب البريطاني للحرب، كانت مفاجأة للأوساط السياسية في لندن، إذ استجاب للنداء مليون شخص حسب تقدير الشرطة ومليون ونصف مليون في رأي مصادر الرابطة. وفي الحالتين كان الاحتشاد غير مسبوق، وتضمن في ثناياه رسالة عبرت ليس فقط عن معارضة الشارع البريطاني للحرب، وإنما أيضا عن قوة حضور الرابطة في أوساط المسلمين، إزاء ذلك لم يكن غريبا أن يطلب وزير الدولة للشؤون الخارجية آنذاك مايك اوبرايان من مسؤولي الرابطة تنظيم اجتماع له مع الجالية المسلمة لكي يشرح لهم موقف حكومته من الحرب، كذلك لم يكن مفاجئا ان يطلب منهم لاحقا كين ليفنغستون اليساري العمالي البارز، الذي فصل من الحزب بسبب تعاطفه مع الفلسطينيين، ان يدعموه في انتخابات عمدة لندن، التي رشح الحزب فيها أحد اعضائه البارزين، وقد وقفوا الي جواره بالفعل، وطافوا معه بمساجد المسلمين وتجمعاتهم، حتى فاز الرجل علي خصمه، وكان لأصوات المسلمين اسهامها في ذلك، الذي اعترف به الجميع ; وعلى رأسهم ليفنغستون نفسه (عدد المسلمين في لندن حوالي 800 ألف، يشكلون 10 في المائة من سكانها).

اختم بخبرين يعكسان بعضا من الأوجه الأخرى للمشهد الاسلامي المسكوت عنه في انجلترا ; خلاصة الأول انه تم في شرق لندن افتتاح أكبر مسجد في أوروبا كلها (يسع عشرة آلاف مصل )، وعلمت أن أبناء بنغلاديش الذين أقاموه بدأوا مشروعهم منذ عام 1923، وظلوا يتوسعون فيه منذ ذلك الحين ويعززون أنشطته حتى أصبح محل إقبال وحفاوة من أبناء الحي، بمن فيهم الانجليز، وساهم هؤلاء كما ساهمت البلدية في نفقات توسيعه وصل مجموعها الى 18 مليون جنيه استرليني.

الخبر الثاني; ان الحكومة البريطانية ـ بطلب من اميركا ـ كانت قد أغلقت وجمدت أموال الصندوق الفلسطيني للإغاثة والتنمية في لندن، وقد أثار ذلك عاصفة من الاحتجاج بين المسلمين، وصلت أصداؤها الى مسامع الحكومة، وإزاء ضغط الرأي العام الاسلامي قررت الحكومة البريطانية اجراء تحقيق في الموضوع استمر شهرين للتثبت مما هو منسوب للصندوق من اتهامات تعلقت بتمويل الإرهاب، وبينت التحقيقات ان الاتهام لا أساس له من الصحة، ومن ثم أعيد فتح مقر الصندوق، وألغي قرار تجميد أمواله، في سابقة تحدث لأول مرة في الظروف الراهنة.

ان السؤال المحير هو: لماذا يصر الاعلام العربي على إبراز أتعس أوجه المشهد الاسلامي في انجلترا من دون غيرها، وهل هي شهوة البحث عن الاثارة بأي ثمن، أم ان هناك أجندة خاصة وأهدافا أخرى غير بريئة؟ لست أخفي انني أحد الحائرين في هذه الجزئية، لذلك فإنني اكتفي بطرح السؤال، راجيا ان يجيب عنه من هو أعلم مني بخفايا الأمر وخلفياته.