حملة هدفها تبرئة صدام وإدانة الحكومة المؤقتة!!

TT

تعرض الأكراد العراقيون، في الأسابيع الأخيرة، الى حملة تشويه عنيفة وظالمة، وأغلب الظن ان حسابات إقليمية لبعض دول المنطقة هي التي وقفت ولا تزال تقف وراء هذه الحملة التي جاء توقيتها مرتبطاً بحدثين عراقيين هامين. أولهما: انتقال السلطة من يد بول بريمر كممثل للإحتلال الى الحكومة المؤقتة. وثانيهما: ظهور صدام حسين ومعظم رجالات حكمه المنهار أمام محكمة عراقية.

والواضح، حتى لأصحاب أنصاف العقول، ان هدف هذه الحملة المنسقة ضد أكراد العراق واتهامهم بتحويل منطقتهم الى مجال حيوي لإسرائيل وقاعدة ووكر للمخابرات الاميركية، هو إشعار العراقيين أولاً والعرب والمسلمين ثانياً بأن البديل لنظام الرئيس العراقي المخلوع هو إسرائيل وان اول غيث الحكومة المؤقتة هو تحوُّل جزء أساسي من العراق الى جيب إسرائيلي ومحمية إسرائيلية.

لقد تضمنت لائحة الاتهام التي وجهت الى صدام حسين، خلال ظهوره الذي استغرق نحو نصف ساعة امام محكمة عراقية تستند شرعيتها الى قرار دولي يؤكد شرعية الحكومة المؤقتة، بنوداً متعلقة بالجرائم التي ارتكبها الرئيس المخلوع ضد ابناء الشعب العراقي من الاكراد في «حلبجة» ومن خلال حرب الإبادة التي شنها النظام السابق، وأطلق عليها اسم «الأنفال»، والتي استهدفت البارزانيين بصورة رئيسية ووصل عدد ضحاياها الى عشرات الألوف.

إذن فالهدف من هذه الحملة المفتعلة ضد أكراد العراق، والتي تردد صداها في كل مكان من الوطن العربي والمعمورة بأسرها، هو الرد على اتهام صدام حسين ونظامه البائد بإرتكاب مجازر ضد الأكراد العراقيين الذين هم جزء أساسي وأصيل من الشعب العراقي، واستخدام الأسلحة المحرمة ضد أطفال وشيوخ ونساء لا تزال صورهم التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية في عام 1988 تعذب أصحاب الضمائر الحية.

إنها حملة مفبركة ومفتعلة، والمقصود هو القول انه كان مع صدام حسين ونظامه الحق كله للقيام بما قام به ما دام ان شمال العراق تحول على ايدي هؤلاء الأكراد الى محمية اسرائيلية، وما دام ان المخابرات الاسرائيلية تم احتضانها مــن قبل الاحزاب والقوى الكردية حتى في ذلك الوقت المتقدم لتتجسس على العراق وعلى الدول العربية والاسلامية المجاورة.

لماذا لم يتم تحريك هذه المسألة إلا الآن، رغم ان نظام صدام حسين كان قد سقط قبل نحو عام وشهرين، ورغم ان أبواب العراق وحدوده بقيت خلال كل هذه الفترة مفتوحة لكل مخابرات دول الكرة الأرضية..؟!

ربما لا يعلم ولا يعرف الذين وضعوا أقلامهم وألسنتهم في خدمة هذه الحملة بحسن نية، ان الذي جلب ويجلب على الأكراد كل هذه التهم وكل هذه المصاعب أنهم الأكثر قدرة على إثبات تهم الإبادة والمجازر الجماعية التي تم توجيهها الى الرئيس المخلوع وأركان نظامه البائد، وأنهم في الوقت ذاته الأكثر رفضاً لأي تدخل عسكري، إيراني وسوري وتركي في العراق، والأكـثر مـواجهة لمحاولات إيران تغيير التركيبة «الديموغرافية» العراقية من خلال تسريب هجرة جماعية يومية الى العراق عبر الحدود الإيرانية - العراقية.

إنه أمر طبيعي ان تواجه تركيا تهديد أكراد العراق، بأنهم سيلجأون الى السلاح لمنع اي تدخل عسكري تركي في الاراضي العراقية، بإطلاق هذه التهم وترويجها، وانه أمر طبيعي ان تستنفر إيران ضد هؤلاء الاكراد بحجة ان شمال العراق تحول الى جيب إسرائيلي ووكر للمخابرات الإسرائيلية، كما انه أمر طبيعي أيضاً ان تبدي سوريا إرتياحاً إزاء هذه الحملة ما دام ان لديها شكوكاً بأن الاحزاب والقوى العراقية الكردية ساهمت، وإن بحدود ضيقة وبصورة غير مباشرة، في افتعال أحداث «القامشلي» المعروفة التي امتدت الى حيث يتواجد الأكراد في عدد من المدن السورية.

لقد كان بإمكان الاكراد الذين كانوا يعيشون استقلالاً تاماً وكاملاً عن السلطة المركزية في بغداد منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، والذين كانت تركيا المتحالفة مع إسرائيل في ذلك الوقت، قبل وصول حزب العدالة والتنمية الى الحكم، تشجعهم على ذلك ان يفتحوا الشمال العراقي لـ«الموساد» والمصالح الاسرائيلية، لكنهم لم يفعلوا ذلك لدواع وطنية وإسلامية، ومراعاة لمصالحهم ومستقبل شعبهم في العراق والمنطقة كلها.

معظم الدول العربية إما مراعاة لصدام حسين، أو خوفاً من سطوته، تحاشت إقامة علاقات علنية مع الاكراد بشقيهم، الحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطالباني، على مدى سنوات ما بعد بدايات عقد تسعينات القرن الماضي، لكن ومع ذلك ومع ان كل المبررات كانت متوفرة وكانت كل الطرق سالكة وآمنة، فإن الاكراد بقوا يغلقون منطقتهم في وجه الإسرائيليين عسكرياً واستخباراتياً ودبلوماسياً وأيضاً حتى بالنسبة للمجالات الاقتصادية.

وللعلم فقط، فإن مسعود البارزاني الذي تربطه عرى صداقة متينة بالرئيس الفلسطيني، بقي يرفض وعلى مدى الاعوام الماضية منذ عودة عرفات الى الضفة الغربية، الاستجابة لطلب فلسطيني بإرسال موفد من قبله الى رام الله، رغم ان اسرائيل في تلك المرحلة كانت تشجع مثل هذه الزيارات، والسبب انه كان يعتقد ان مثل هذه الخطوة سابقة كثيراً لأوانها، وأنه غير ضروري اتخاذ موقف قد يؤثر سلباً على توازنات العراق المستقبلية.

لم يتصرف مسعود البارزاني، ومعه كل القوى الكردية الرئيسية والثانوية، في أي يوم من الايام على أساس ان منطقة الحكم الذاتي في شمال العراق دولة مستقلة أو شبه مستقلة، ولذلك ولأنه بقي يعتبر ان هذه المنطقة جزء لا يتجزأ من العراق حتى وإن جرى الأخذ بالصيغة «الفدرالية»، فإنه تقصد ترك هكذا مسألة سيادية تتعلق بإسرائيل، وإقامة علاقات دبلوماسية وغير دبلوماسية معها الى ما بعد إطاحة نظام صدام حسين، وإجراء انتخابات تمثيلية حقيقية تسفر عن قيام حكومة تمثل الشعب العراقي كله وتستطيع الإقدام على خطوة كهذه الخطوة.

لم يقبل مسعود البارزاني، حتى عندما كان شمال العراق خارج سيطرة وتبعية الحكومة المركزية في بغداد، الإستجابة لتوجهات بعض أصدقائه الفلسطينيين وإرسال رسالة الى وزير الدفاع الاسرائيلي الأسبق العراقي الأصل إسحق مردخاي، واكتفى بإرسال صورة لمنـزل هذا المسؤول الاسرائيلي السابق في بلدة عقرة، الواقعة على الطريق بين دهوك واربيل، الى الرئيس ياسر عرفات الذي قام بدوره بإهداء هذه الصورة الى مردخاي.

كل ما يقال الآن حول التواجد الإسرائيلي في شمال العراق لا صحة له، ولعل الذين يروجون حكاية شراء الإسرائيليين مساحات واسعة من ارض كردستان العراقية، لا يعرفون ان العراقيين وعلى غرار ما قامت به كل الدول التي تعرضت لمثل ما تعرض له العراق، سيبادرون بعد الانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها في بدايات العام المقبل، واختيار حكومة دائمة تحل محل الحكومة الانتقالية الى إصدار قانون يلغي كل صفقات بيع الاراضي والعقارات في سنوات ما بعد غزو الكويت في عام 1990.

لقد اضـطر الملا مصطفى البارزاني، والد مســــعود البارزاني، ذات يوم عندما «إصطكت» عليه أضلاع المعادلة الإقليمية، وتعرض الاكراد العراقيون في شمال العراق الى حروب إبادة ومذابح جماعية، وعندما أغلقت أبواب العواصم كلها في وجهه الى الذهاب لإسرائيل لزيارة واحدة ولفترة محدودة. وأمضى بقية حياته وهو يشعر بتأنيب الضمير لأنه قام بتلك الزيارة.

لكن تلك الــخطوة التي يمـــكن إدراجها في إطار القاعـــدة الفقهية القائلة: «الضرورات تبيح المحظورات»، لا تعني ان اكراد العراق اختاروا التحالف مع اسرائيل على حساب انتمائهم لوطنهم العراق وانتمائهم للإقليم والمنطقة، وهنا فإنه لا بد من التذكير بأن العرب كلهم تجاوزوا مسألة إقامة حزب الكتائب اللبناني ذات يوم علاقات سياسية وامنية وعسكرية مع الدولة الاسرائيلية، وان سوريا التي تعتبر نفسها الأكثر رفضاً لإقامة علاقات كردية - اسرائيلية تعاملت مع قادة هذا الحـــزب اللبناني على أساس «عفا الله عما سلف» وقبلت بهم حلفاء لها ضد غيرهم وأدخلت عدداً منهم حكومات لبنانية متلاحقة.