أيها العرب... كفانا راديكالية!

TT

راديكالوس لفظة لاتينية تعني الجذور، وقد أصبحت تحتل مكانها في أدبيات العلوم السياسية كتعبير عن الإصلاح «الجذري»، أو التمرد على الأفكار والأعراف والتقاليد الشائعة في الحياة السياسية والاجتماعية، بمعنى أن الراديكالية كلمة ليست عربية ولكنها أصبحت شائعة ومستساغة كجزء طبيعي من مفرداتنا، وكأننا لا نستطيع أن نتجنب الغير في الحديث عمّا يجري في دارنا، وهو ما يثير أزمة الهوية التي لا أجدها إلا تزداد حدة في العالم الراهن بسبب عملية تداخلنا مع العالم الآخر، ولا ندري أهي أزمة هوية أم مسألة عادة! ولا أبرئ نفسي في هذا الخصوص فأنا من الأشخاص الذين يستخدمون الألفاظ الغربية في أحاديثهم وتحاوراتهم ولكن في حالة واحدة فقط، إذا علمت أن الطرف الآخر على علم بما أتلفظ به، أمّا إذا كنت أتكلم بلغة لن يفهمها من يسمعني فهنا يصبح الإصرار ضرباً من التفلسف المعبِّر عن نقص في شخصية صاحبه ولا شك، فهل نعاني نحن العرب من أزمة فكرية حتى نستمر في تبني المفردات الدخيلة في كلامنا وأعلامنا!

الجواب يحتاج إلى مئة مقال، وإن كان المختصر المفيد يقرر أن لغتنا العربية، لغة آخر الكتب السماوية المقدسة، قادرة ووّلادة على التطويع والتخريج دائماً، من دون الحاجة إلى اللجوء للمفردة الأجنبية في اللحظة الأخيرة لإنقاذ الموقف أو تكملة الجملة ـ كما جرت العادة، فأتمنى أن نتخلص، من هذا الأسلوب التحاوري الذي غالباً ما يحسب علينا، وقبل أن ينتفض دعاة الآراء المتحزِّّّّّّّّّّّبة ضد كل من درس في جامعات الغرب، وتبدأ اسطوانة التراث الفكري والديني المهدد بدخول أمثالنا على الساحة، سأعود إلى موضوع الراديكالية لنرى ماذا بشأنها...

إذا كان معنى الراديكالية هو اتخاذ المواقف التي فيها قدر من التطرف، فما الذي يدعو لتجديد هذه المسألة باستمرار ويجعلها قائمة! يُقال بأن المواجهة بين الشرق والغرب قد غذّت وشجعت على وجودها، فهل يترتب على اختفاء هذه التقابلية التخلص من راديكاليتنا!

إن الراديكالية في تقمصها لأوضاع مختلفة ما هي إلاّ رد فعل لحالة قلقة تتطلع إلى أمور من الصعب تحقيقها، بمعنى أن الراديكالية لا تحمل في حد ذاتها الحلول للخروج من المأزق، ولكنها تظهر في الأزمات، وربما هذه هي المعضلة التي طالما تميزت بالتكرار التاريخي، فكما كان الثوب القومي تعبيراً عنها في ظرف معين، تجد أن التقدمي قد لبس ذات الثوب في ظرف آخر، ليستعيره منه اليوم التيار الديني في ظل خيبة الأمل التي ترتبت على الأثواب السابقة، فالراديكالية الإسلامية تقتات على نفس الشعارات من حيث المضمون على الأقل، حتى وإن كانت لغة الخطاب مختلفة، فما لم تفلح فيه الليبرالية منذ الأربعينات وبداية الخمسينات، وما لم تنجزه القومية التي ازدهرت في الخمسينات وووصلت لمنتهاها في الستينات، تأتي الراديكالية الإسلامية منذ السبعينات فترث نداءات المرحلتين السابقتين لها، ثم تعيد تعبئتها وتضيف إليها ما يناسب خطابها السياسي والديني، مع العلم أن جنود الموجات الثالثة ـ ليبرالية، قومية، إسلامية ـ هم تقريباً نفس التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية من أبناء الطبقات الوسطى والدنيا، مما يعني وجود البيئة المناسبة المهيأة دائماً لظهور هذا النوع من التطرف، وفي هاتين الطبقتين بالتحديد، فهي التي تنمو نوازعها مع كل قضية عدالة تتوارى، ومع كل قصة تنمية تتعثر فصولها.

هذا من ناحية، أمّا فيما يتعلق بطرح الأفكار والآليات، فالفكر القومي، والفكر الإسلامي لم يخرجا حتى الآن على الأمة «بأجندة» تتفاعل مع أحوالها وطموحاتها، فلا برنامج قانونيا ولا مؤسساتيا، ولا مشروع تنويريا عن الإسلام في العصر الحديث، ولا كيف نأخذ بقيمه ونصيغها في قوالب تتناسب وأيامنا، إنما هو هاجس الحصول على السلطة ثم الاستحواذ على كرسيها، والمؤسسة الفعّالة الوحيدة هي التي يجب أن تعمل على استمرارها، وأفضل التقنيات ما كان منها في الدعاية والمواجهة المسلّحة، أمّا قضية أن تكون لهذه الراديكاليات عقيدة سياسية متطورة يتوافر لها حد أدنى من الوحدة الفكرية والإجماع على أساسياتها، لترك الجزء الأكبر من الأمور للاجتهاد والتعامل مع الخلاف والاختلاف، فهي «فقرة» مفقودة من البرنامج سقطت عن قصد وترصد، وطبيعي انه حين تنتفي المرونة تبدأ ممارسة الإبادة للآخر، سواء بالمعنى المجازي أو الحرفي للكلمة.

صحيح أن معظم الحركات الراديكالية سواء أكانت قومية أو إسلامية أو حتى بعثية قد صمدت لفترات من الزمن، فمثلاً تنظيم الإخوان المسلمين في مصر بدأ منذ عام 1928 ونحن الآن في 2004، لكنه من المعروف أيضاً أن أسباب تعميرها لا علاقة لها بإنجازاتها العبقرية، فبقاء التنظيم لا يعني بالضرورة مقدرته على التعامل مع التحديات سواء الوطنية أو الإقليمية أو العالمية، وهذا هو مقتل كل الراديكاليات العربية.

إن فهم المتغيرات العالمية، وما يحرِّك النظام الكوني من حولنا إنما يرتبط بالعلم وتقنياته، وبتسخير القدرات البشرية وإطلاق عقولها، فلا نجد والحال هذه في قراءات التنظيمات ـ أياً كانت مظلتها ـ اهتماماً بهكذا مسائل لا من حيث التحليل، ولا من حيث التخطيط، فالمعتاد مثلاً أن تأتي تلك الحركات ببرنامج معاصر، لا علاقة له بالمستقبل، فإذا مرت عليه بعض السنين تحوّل وبشكل تلقائي إلى قوة ضد التقدم، لا ترى حق المجتمع في التغير، فإذا انفجرت في وجهه العوامل الداخلية أو التحديات الخارجية، رأيته يلجأ إلى العنف حتى يضمن لحياته وجوداً، والمشكلة كما أراها أنه لا يوجد تصور واحد متفق عليه، لا نظرياً ولا عملياً، لدى الحركات الراديكالية بالنسبة لشكل الدولة ومؤسساتها وسياسة إدارتها، فقد تجد المفهوم الذي يميل إلى التطور الذي قد يقترحه العقلاء المحسوبون على التيار، فإذا التفت يسارك رأيت النموذج المتخلف عن التاريخ والإنسانية يحيا على النقيض منه ويؤيده المتكلِّسون، وكأن الكيان ممزق يحكمه اضطراب فكري أصعب، وإلاّ فما معنى لفظ الإسلاميين، والتيار الإسلامي وما شابههما! هل صُنِّفنا إلى إسلاميين وغير إسلاميين، أو أصبح الإسلاميون غير المسلمين! أليس فيه تلميح مبطن بالتكفير. وإن لم يكن بالضرورة تكفيراً كاملاً، فيكفي أنه تقسيم أخرق يضع غالبية المسلمين في مرتبة أقل إسلامياً في تعميم لا يزيدنا إلاّ فرقة.

على أية حال ينبغي أن نعي أن تاريخنا الذي عانى من القوى الطامعة للسيطرة على أوطاننا ومقدراتنا منذ القرن التاسع إلى نضالنا التحرري من التبعية في القرن العشرين، قد وضعنا في حالة مقاومة دائمة، فالاستعمار الذي فرض التجزئة علينا لم تأتِ حركات الاستقلال الوطني من بعده فتقيم مراسم الوحدة بين شعوبها، فعلى مستوى العروبة وحدها نحن منفصلون إلى اثنتين وعشرين دولة، أي اثنتين وعشرين قطعة، فإذا علمنا أنه لا استقلال في السياسة من دون الاستقلال في الاقتصاد، ومهما تكن من وطنية للحكّام فإن المحددات الاقتصادية والعسكرية المقيدة للإرادة السياسية لا تمكنهم من إطلاق المشيئة الوطنية إلى المدى الذي يريدون، فكل عنصر من عناصر وجودنا روعي أن يكون بالشكل الذي يجعله عامل ضعف لا قوة، ثم إذا أضفنا إليه صداعنا المزمن بين الموروث والوافد، أو التراث والمعاصرة، ونظرتنا المشوشة إلى أصول الاجتهاد وفروعه، التي لم يرحمنا علماؤنا الأفاضل فيفتوا في مسائله المستجدة، كما علينا أن نزيد طينتنا بللا كل آونة والأخرى بأفكار متطرفة راديكالية تفاقم من إرباكنا وتشتتنا! ثم ممّ تشتكي منه وسطيتنا حتى نستبدلها بكل ما يشُقّنا ويشقينا جغرافياً ووجدانياً ووطنياً! ألم يخلقنا الله ويجعل لنا أرضاً ونظاماً نشترك فيهما جميعاً! فلنمش على أرضه بنظامه الإلهي الذي ارتضاه لنا، فإذا أردنا أن نجتهد نفضنا عنا غبار كل الراديكاليات التي أخرتنا، وتسلحنا بالوسطية والتدرج في الإصلاح المدعّم بعلم ومنهجية قوامهما العزيمة الصادقة والعدالة في التطبيق..وكفانا راديكالية.