فضائيات بنت سبعين كذّاب!

TT

بعد يوم واحد من وصولي الى بغداد أجبت الذين سألوني من لندن عن انطباعاتي الاولى عن العاصمة العراقية في مطلع زيارتي الثالثة اليها منذ سقوط نظام صدام، قائلا: انطباعي ان الفضائيات العربية كذّابة بنت ستين كذّاب!

وصلت الى المدينة ظهرا وحرصت على ان اذهب في مساء اليوم نفسه الى حي المنصور، وهو محل اقامة وملتقى افراد الفئة العليا من الطبقة الوسطى البغدادية (تجار، صناعيون، مقاولون، اطباء ومهندسون ومثقفون ميسورون)، فهذا الحي هو ترمومتر الوضع الأمني والسياسي في المدينة وأهله هم من اكثر سكان العاصمة حساسية تجاه مصائرهم الشخصية.

شوارع الحي الرئيسية التي تجولت فيها كانت غاصة بالسيارات والبشر.. على الجوانب تزدحم في صفوف منتظمة او بشكل فوضوي سيارات الركاب وشاحنات النقل الصغيرة، وفي الوسط تسير صفوف اخرى منها ببطء شديد. اما الارصفة فقد اكتظت بالمشاة وبالبضائع المختلفة، وبخاصة الكهربائية المنزلية. وامتد الزحام الى المحال التجارية والمقاهي ـ بما فيها مقاهي الإنترنت ـ والمطاعم ودكاكين الدوندرمة (آيس كريم) والعصائر والمشروبات الخفيفة المثلجة.

في اليوم التالي امضيت اكثر من ساعة في مقهى ـ مطعم يرتاده الجنسان في حي الحارثية، ثم تجولت في مركز المدينة: علاوي الحلة، الصالحية، شارع الرشيد، شارع الجمهورية، ساحة التحرير وساحة الطيران في الباب الشرقي، وانتقلت الى حي زيونة ومنها الى حي الكرادة بقسميه (داخل وخارج)، وفي المساء حضرت بدعوة من وزير الثقافة الصديق مفيد الجزائري حفلة للمقام العراقي في نادي الصيد، وبعدها تعشيت في «مطعم ركن العزائم» في حي المنصور. وعندما غادرته في حدود العاشرة والنصف كانت الحركة ما تزال دائبة في شوارع الحي، ورأيت عدة نساء يتمشين على الارصفة بهدوء ورصانة وثقة وحيدات وسافرات.

طوال ذلكما اليومين لم تنفجر امامي سيارة مفخخة او عبوة ناسفة، بل لم اسمع اصوات اطلاقات نارية ولم الحظ حتى مشاجرة بسيطة بين شخصين.. وهذه بالطبع صورة مناقضة تماما لما تعرضه معظم الفضائيات العربية عن العاصمة العراقية، ولهذا أجبت على الفور من دونما تردد الذين سألوني من لندن عن انطباعي الاولي بأن الفضائيات العربية «كذّابة بنت ستين كذّاب».

في المرة الاولى التي عدت فيها الى بغداد بعد سقوط نظام صدام مباشرة، بدت لي العاصمة العراقية مدينة شبه ميتة، وفي المرة الثانية، بعد الاولى بستة اشهر، وجدتها نصف حية نصف ميتة، اما الان فقد غاب عنها شبح الموت، بل تعافت كثيرا، ولولا مشكلة الكهرباء لكانت بغداد لا تختلف في شيء عن دمشق او بيروت او القاهرة في صخبها وحيويتها. لكن الفضائيات العربية تصر على ألا توجه كاميراتها الى الجوانب الايجابية الكثيرة في حياة بغداد ما بعد صدام وما بعد الحرب. تصر هذه الفضائيات على ان تظل عوراء لا ترى الا مناظر الهجمات والتفجيرات التي لم يعد الكثير من البغداديين يشعر بوجودها. وطوال نحو اسبوعين لم اسمع سوى صوت انفجارين بعيدين احدهما في الليل والآخر في النهار. اما اطلاق النار الوحيد الذي سمعت صوته فكان اثناء حفل زفاف جرى بالقرب من محل اقامتي.

وبعد عودتي من بغداد ها انا ذا أقول من دون تردد ايضا: الفضائيات العربية كذّابة بنت سبعين كذّاب! فتغطيتها للاحداث في العراق جائرة للغاية. هل هذا مقصود؟ الكثير من العراقيين يعتقدون بهذا، وهو ما يثير في نفوسهم النقمة على العرب والكراهية لهم.. انهم يعتبرون ان العرب لا يريدون للعراق ان يتعافى وان يخرج من دوامة الدكتاتورية والحروب. لا يريدون له ان يستقر ويعاد بناؤه وينطلق في دروب التقدم والديمقراطية. العراقيون لا يريدون شيئا سوى ان يكرمهم العرب بالصمت.