عشر سنوات على عودة عرفات إلى غزة

TT

لو كان لعرفات احفاد لقال لهم: لم تبق إلا الصور. لقد مرت عشر سنوات على العودة الى غزة، كنتم اطفالا يوم وقفت على شرفة مقر الحاكم المصري السابق في غزة، كانت الجموع بحرا يهتف باسمي، كنت محاطا بكبار قياديي وعلم فلسطين يتلألأ على عرض الشرفة، احد حراسي لشدة فرحه جلس على حافة الشرفة وقدماه متدليتان الى الخارج.. أنا كان نظري يجول في الأفق وسألت كبار قياديي: هل هذا كله لنا؟ فأجابوني بالتأكيد، ومن البعيد لاح أمامي شاطئ غزة، فسألتهم: وهل هذا البحر بحرنا؟ فأجابوا فرحين: نعم.. نعم.

الآن أنا في المقر في رام الله ويفصلني عن غزة وبحرها جدار، لم اكن اتوقع يوما انه سيرتفع ويقسم ما كنت اعتبره لنا. عندما كان ما لنا لنا، كنت اذهب الى العالم وكان العالم يأتي الينا، حتى الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون جاءنا والقى خطابا في البرلمان الفلسطيني، لا أدري من اخطأ بحق الآخر، هو ام أنا، لقد مر تاريخ خلال العشر سنوات الماضية ستقرأون عنه عندما تكبرون، لقد كُتِبت كتب كثيرة عن مفاوضات تلك السنوات واتفاقياتها، ستقرأون كيف انني كنت اسقط الحكومات الاسرائيلية وآتي برئيس وزراء اريده، انتصرت عليهم كلهم، حتى على بنيامين نتنياهو.. إلا شارون هو الوحيد الذي رفض مصافحتي عندما كان العالم كله يستقبلني، انه يكرهني منذ غزو لبنان، يومها عجز عن قتلي، فأنا ممنوع قتلي دوليا، لكنهم اليوم مع الجدار يقولون انني صرت عجوزا، مع أنني اصغر سناً من شارون، هو في السادسة والسبعين وأنا في الرابعة والسبعين، اما بيريز فقد بلغ الثمانين وهما آخر من تبقى من الجيل الاسرائيلي المؤسس، وأنا كذلك فمعي انتعشت القضية الفلسطينية، وبعد ان اعتبر قرار محكمة العدل الدولية الجدار الذي تبنيه اسرائيل في الضفة الغربية خرقا صارخا للقانون الدولي، لجأ شارون الى التفكير بتشكيل حكومة ائتلافية والتقى ساعة كاملة يوم الاثنين مع بيريز، تحدثا بالطبع عن خطة شارون للانسحاب من قطاع غزة مع شهر ايلول (سبتمبر) 2005، حيث يعيش 7500 مستوطن اسرائيلي وسط 1.3 مليون فلسطيني، وتحدثا بالطبع عن مستقبل الضفة الغربية التي ينوي شارون تفكيك اربع مستوطنات معزولة فيها، لكن الأهم في الأمر هو ان بيريز الاكبر سناً بين السياسيين الاسرائيليين، يعتبر من الحمائم، وقد تكون صورته الايجابية في الخارج هي ما يحتاجها رئيس الوزراء الآن لمواجهة الضجة العالمية حول الجدار، اعرف كيف يفكر.

يقول عرفات لاحفاده: لقد وصفت أنا القرار بـ«انتصار العدالة»، تعرفون انني احب هذا النوع من العبارات: سلام الشجعان، الضوء في نهاية النفق، يخبرونني ان هناك انفاقا بين غزة ورفح ـ سيناء، لكنني انظر من النافذة وأرى الجدار، اما رئيس وزرائي احمد قريع فوصف القرار بالتاريخي، الغريب انه في الوقت الذي بدأت تعترف فيه الادارة الاميركية الحالية بانه لا بد من الهيئات الدولية، يقول دوري غولد المستشار السياسي لشارون (سفير اسرائيل السابق في الأمم المتحدة): «ان حلفاءنا الغربيين يعارضون الفساد المتفشي في دوائر محكمة العدل الدولية ويرفضون ان تحل كسلاح سياسي محل المفاوضات السياسية! أنا مطمئن الى ان الاتحاد الأوروبي يدعم المحكمة ويحث اسرائيل على نزع اجزاء من الجدار التي بنيت خارج الخط الأخضر. لقد بلغني ان وفدا اسرائيليا التقى مساء الجمعة الماضي برنارد بوت وزير خارجية هولندا التي بدأت رئاستها للاتحاد الأوروبي، وطلب منه اريه ميكيل نائب رئيس البعثة الاسرائيلية الى الأمم المتحدة، ان تتمسك اوروبا بموقفها، غير ان بوت ابلغه، رغم اعتراف اوروبا بحق اسرائيل في الدفاع عن مواطنيها من الهجمات الارهابية، إلا ان عليها ان توقف بناء الجدار داخل الأراضي الفلسطينية بما فيها القدس الشرقية. ويضيف عرفات لاحفاده، لو كان عنده احفاد، ان الولايات المتحدة عارضت قرار المحكمة لكنها لم تقل بالتحديد انها ستمارس حق النقض في مجلس الأمن اذا صدر قرار يلزم اسرائيل بالانصياع، وككل انتخابات اميركية ندخل في البازار لقد قرأت بيانا صحفيا لجون كيري المرشح الديمقراطي يقول فيه ان الجدار رد شرعي على الارهاب، ولحقته هيلاري كلينتون، تعرفون انها زارتنا مع زوجها، لقد ذهبت الى مؤتمر صحفي يوم الجمعة الماضي عقدته المجموعات اليهودية في نيويورك وقالت انها لا تدرك كيف ان الأمم المتحدة تعارض بناء الجدار رغم انه رد غير دموي على عمليات ارهابية. والذي لفتني، كان الهجوم على الأمم المتحدة، اعرف انها من كلفت محكمة العدل الدولية باصدار قرار استشاري غير ملزم لكنه صار بمثابة القانون الدولي. في المؤتمر الصحفي اياه وصف السفير الاسرائيلي لدى الأمم المتحدة دان جيلرمان يوم الجمعة الماضي، باليوم المأساوي، وقال «انه جدار عرفات. ان عرفات بنى الجدار، وان الجدار سيبقى ليحمي حياة الاسرائيليين». اما اغرب ما سمعته ويدل على الجنون الذي اصاب اسرائيل بسبب قرار المحكمة الدولية، ما قاله شارون بعد عملية تل ابيب، لقد وصفتها انا بالاستفزازية، وبعدما كنت أنا بنظره راعي العمليات الارهابية صارت محكمة العدل الدولية مكاني، وتصوروا ما قاله رعنان غيسين الناطق باسم شارون في نقده للمحكمة الدولية: ان محكمة العدل الدولية بقرارها سجلت سابقة بأنها وقفت مع حق طرف بالأرض ضد حق الطرف الآخر في حقوقه! (بي.بي.سي يوم الأحد الماضي). وتعرفون ان القضية كلها حول الأرض، وها أنا انظر ولا أرى سوى جدران، جدران المقر وذلك الجدار. نحن رأينا في القرار عدالة، واسرائيل قالت ان منظمة دولية خاطئة اصدرت قرارا خاطئا، لكنها رأت ان القضاة تأثروا بالمناخ العام مما يعني ان المناخ العام معنا.

اما ماذا اخبركم عن سجل المحكمة الدولية؟ في الستينات إتهمت انها منحازة، لكن محكمة العدل الدولية الآن تتمتع بسمعة رائعة لاستقلاليتها وعدم انحيازها، والقول ان قضاة المحكمة يتبعون اراء حكوماتهم غير صحيح اطلاقا، واذا كان من شيء يطال هذه المحكمة فهو ان الغرب يسيطر عليها عبر القضاة.

لقد تحدثوا عن النتيجة التي دانت الجدار بانها قرار 14 قاضيا مقابل واحد، والواحد هو القاضي الاميركي، لقد سمعت انه فقد عائلته في الهولوكوست، لكن اذا نظرنا الى تصريح القاضي الاميركي فهو قال: «أنا اعتقد ان الكثير في الرأي الصادر صحيح»، وكان اعتراضه تقنيا على اساس ان المحكمة لم يتوفر لها ما يكفي من الأدلة، وهذا خطأ الوفد الاسرائيلي الذي رفض تقديم أي أدلة، لا بل قرر عدم التعاون مع قضاة المحكمة مما يعني ان كل الأدلة قدمها طرف واحد وهو الطرف الفلسطيني، ويواصل عرفات لاحفاده، ومع هذا حاولت المحكمة ان توازن في المعلومات التي لديها، وقرار المحكمة مليء بالتفاصيل، هناك من يقول ان كون احد القضاة انشق عن البقية يعني ان هناك زاويتين في النظر الى المسألة، لكن من خلال اتصالاتي مع الخبراء في القانون الدولي، فهمت ان القاضي الاميركي لم يعترض على محتوى القضية المطروحة بل على ما يمكن قوله، هو اعتقد بان المحكمة يجب ان لا تمارس سلطاتها القضائية، وعلى هذا الأساس لم يستطع الاتفاق مع ما توصل وأقره القضاة الآخرون، لكنه كرر: «أنا اعتقد بان اغلب ما قاله القضاة في هذا القرار صحيح»، وشكك في شرعية التصرفات الاسرائيلية، لكن، يقول عرفات لاحفاده، وكأن هناك من لا يريدنا ان نحقق ولو انتصارا معنويا، فجاءت عملية تل أبيب، وترافقت مع صراع داخل فتح يهدف الى تقليص صلاحياتي كجزء من حملة الاصلاحات، وبدأ البعض يحاول اثارة كتائب شهداء الأقصى ضدي بعد ان اوقفت رواتبهم منذ شهرين، لقد جاءوا يطلبون مني ان امنع سلام فياض وزير المال من تسريحهم من عداد القوات الامنية، انا قلت لهم لماذا لا تذهبون الى فياض هو الذي يدير المال الآن. لقد عرفت ان اعضاء من فتح ومن الأقصى قرروا دعم محمد دحلان، فهو قال لهم انه يريد تحييدي وطرد مساعديّ وانه مدعوم من مصر والولايات المتحدة والمجموعة الدولية، انه ينظم الاجتماعات للتحضير لانتخابات في فتح تجري في شهر ايلول (سبتمبر) المقبل، وهو يعد الأقصى والمتمردين في فتح بانهم سيحافظون على مناصبهم، ايضا احب ان اخبركم ان هناك وثيقة توزع تدعو المعارضة، أي حماس والجهاد الاسلامي، للانضمام الى حكومة وحدة وطنية اتحول فيها أنا، عرفات الى صورة رمزية، عكس ما أنا عليه منذ عشر سنوات أي منذ 1994 ... ومن قال انني ضد الانتخابات، لكن اسرائيل وعملياتها والجدار تمنع ذلك.

ويسأل الأحفاد عرفات: بعدما حققنا انتصارا معنويا رائعا في محكمة العدل الدولية، هل ستحصل مواجهة بينك وبين دحلان؟

لكن، اذا كان عرفات موجودا فلا احفاد له، وما بين الوصول الى غزة منتصرا منذ عشر سنوات وبناء الجدار مر الكثير من الصدمات والتقلبات وسالت الدماء فاغرقت وجوه الجميع، اننا نحتاج الى غسل الوجوه من الدماء كي نستطيع ان نرى بوضوح السلام وقد تساعد حكومة ائتلاف وطني في اسرائيل والانسحاب من غزة على رؤية ضوء حقيقي وقد يكون الجدار هو الشعرة التي ستكسر ظهر الجمل الدولي المؤيد لاسرائيل.