هل لمقولة «الغرب» معنى؟

TT

يذهب وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، في مقاله الأخير الذي نشرته «الشرق الأوسط» بتاريخ 7 يوليو (تموز) 2004، إلى أن مشهد التصدع بين الولايات المتحدة والقارة الأوروبية هو، في حقيقة الأمر، أكثر من مجرد أزمة عارضة، بل يشكل نقطة تحول نوعية في مسارات الشؤون الدولية.

وينتشر هذا الرأي راهنا في حقل الدراسات الاستراتيجية، بحيث أن مفكرا أميركيا آخر ذائع الصيت هو فوكوياما، تساءل في دراسة مطولة منشورة عام 1992: هل ما زال لمقولة «الغرب» معنى في ظل الأوضاع الحالية؟

يجيب فوكوياما بالقول إنه على الرغم من حقيقة وجود قيم ومصالح ومؤسسات مشتركة جامعة بين الفضاءات الداخلة في مفهوم الغرب، إلا أن الخلافات لم تفتأ تتعمق وتتزايد بين هذه الفضاءات إلى حد التباين الجوهري في الرؤية والتوجه، مما سيكون له الأثر الحاسم في العلاقات الدولية. ويرى فوكوياما، أن رهان هذا التباين يتعلق بنمط التعامل مع القضايا الدولية، إذ ترى المجموعة الأوروبية أن الولايات المتحدة تميل للانسحاب من التزاماتها إزاء العالم، وتتجه نحو نمط الأحادية والنزوع الإمبراطوري. ويرجع فوكوياما التمايز بين الفلسفتين الاستراتيجيتين الأميركية والأوروبية، إلى اختلاف طبيعة وحضور الدولة القومية في كلتا الساحتين. فعلى الرغم من أن هذا النموذج نشأ في أوروبا، إلا أن الدولة فيها انفصمت عن القوة العسكرية وتخلت عن الجانب الأوفر من سيادتها، ولذا تميل إلى فكرة الائتلاف والشراكة. أما الدولة في أميركا، فقد قامت على فكرة سياسية وعقد مدني مقدس، وهي التي أنشأت الأمة، وفق مشروع جامع بين البعد الوطني والطموح الكوني، ومن ثم النزوع إلى الخلط بين المصالح القومية ومصالح البشرية من خلال دور رسالي تضطلع به هذه الأمة المنتخبة.

بيد أن هذا العامل الاستراتيجي الذي نبه إليه فوكوياما، لا يكفي لتفسير معادلة التصدع الأوروبي ـ الأميركي، التي برزت عينيا بعد نهاية الحرب الباردة، التي كانت اقتضت ائتلاف جناحي المنظومة الغربية الرئيسية.

فثمة اختلافات بنيوية تتعلق بالمرجعية القيمية والنماذج التنموية والاجتماعية، تتمحور حول نمطين مختلفين من الحداثة، تمايزا منذ عصور التنوير والثورات (أشار الكسيس دتكوفيل في كتابه المشهور حول الديمقراطية الأميركية إلى بعض جوانبها).

وليس من همنا في هذا الحيز، بسط القول في هذه الاختلافات الجوهرية بين التجربتين الأميركية والأوروبية، وإنما أردنا عبر الإشارة إليها، إعادة طرح سؤال فوكوياما وكيسنجر حول مدى صلاحية مقولة «الغرب» كمفهوم حضاري واستراتيجي.

وقد يظهر السؤال غريبا، مثيرا، فمقولة «الغرب» تبدو بديهية لا لبس فيها، تستخدم على نطاق واسع، في الأوساط السياسية الأميركية والأوروبية منظور الفاعلية الإجرائية (توطيد التحالف الاستراتيجي القائم منذ الحرب العالمية الثانية). وفي الأوساط الثقافية لإعطاء مضمون قيمي موحد لنماذج تلتقي في عدة خصائص جامعة (القيم المتولدة عن الثورات الصناعية والتقنية والسياسية الحديثة). كما تستخدم بالمعنى ذاته في الخطاب العربي ـ الإسلامي الرائج منظور الوعي بالهوية الخصوصية والقطيعة إزاء الآخر المهيمن (الامتداد الصليبي ـ الاستعماري المتجسد راهنا في أميركا من حيث هي نقطة اكتمال الغرب).

والمعروف أن أطروحة هنتغتون حول صراع الحضارات، التي لاكتها الألسن كثيرا (خصوصا في العالم العربي)، قد سعت إلى تقنين وصياغة هذه الصورة السائدة عن الغرب التي تحتاج للتفكيك والنقد.

ولا بد في البدء، من الإشارة إلى تباين، بل وتعارض، مستويات تشكل هذا المفهوم الذي يعجز عن حسم إشكالات عصية من شأنها تقويضه ونسفه من الداخل.

فما هي حدود «الغرب» المفهومية والتاريخية والإقليمية التي تميزه في خصوصيته وتفرده؟

هل هي الجذور الإغريقية ـ اللاتينية التي شكلت مهاده الفكري الأصلي، مع العلم أن هذا الفضاء الإغريقي ـ اللاتيني، لا ينفصل عن المجال الشرقي الواسع الذي يتداخل معه جغرافيا وحضاريا، مما يدركه أهل الاختصاص جيدا؟ أم هي الخلفية الدينية اليهودية ـ المسيحية، التي لا يخفى أن حقل انبثاقها هو التقليد التوحيدي الشرقي الذي شكل الإسلام خاتمته ومن الخلف إقصاؤه بأي ذريعة. أم أن «الغرب» هو مفهوم ينتمي لعصور الحداثة والتنوير التي كانت خاصة بالمجال الأوروبي وامتداده الأميركي، وقد أفضت إلى صياغة نموذج مجتمعي وحضاري متكامل قوامه القيم الفردية والإنسانية، والممارسة الديمقراطية التعددية، والليبرالية الاقتصادية، وتلك هي السمات المشتركة اليوم بين مكونات هذا الفضاء الغربي الأوسع؟

ففضلا عن كون هذا التحديد، يُخرج من مفهوم «الغرب» العديد من الأمم التي لم تعش هذا المسار التحديثي، ولا تزال تتعثر فيه، كما هو شأن العديد من بلدان أوروبا الشرقية والجنوبية وكافة بلدان أميركا الجنوبية، فإنه يتخذ من محدد تنموي ـ قيمي قابل للاستيعاب والاستنبات داخل ساحات ثقافية متمايزة ومتغايرة مقوم هوية حضارية خاصة.

وفق هذا التصور، يغدو من العصي تصنيف أمم ودول بعينها إزاء هذا النموذج: فهل تنتمي روسيا بزخمها التاريخي الكثيف وتراثها المسيحي العريق إلى الفضاء الأوروبي، الذي غالبا ما تقصى منه لأسباب أيديولوجية واستراتيجية ظرفية؟ وكيف يتسنى تصنيف اليابان التي نجحت في استنبات نفس مكونات وآليات النموذج التحديثي الأوروبي ـ الأميركي من داخل أرضيتها الثقافية الاجتماعية المتميزة الخاصة؟

ومكمن الإشكال هنا، هو أن الحداثة مسار كوني له مقوماته ومقتضياته الموضوعية، بل إن الكونية هي المقولة المرادفة له، بحيث لا يتسنى اختزاله في نموذج ثقافي بعينه، على غرار المقاربة السوسيولوجية المألوفة الرابطة بين نشوء التصنيع والرأسمالية والإصلاح البروتستاني (ماكس فيبر)، والمقاربة الأصولية الرافضة لقيم التحديث باعتبارها غزوا وافدا واستلابا مذموما.

لقد بين المفكر اللبناني جورج قرم، في كتابه الهام الصادر أخيرا بالفرنسية بعنوان «الشرق والغرب: التصدع المتخيل»، أن مقولة الغرب هي تجسيد لخطاب نرجسي منغلق يطمح إلى تكريس الانفصال والقطيعة عن باقي العالم باسم خصوصيات لا تاريخية وهمية. وقد رصد قرم في كتابه المذكور، مكونات هذا الخطاب القائم على تمييزات هشة: بين التقليدين الآري والسامي (في مستوى اللغة والعقل)، بين المجتمعات الكرسمائية السحرية والمجتمعات العقلانية الحديثة (فيبر ودوركايم)، بين الدول القومية ذات العمق التاريخي والرسالة الإنسانية والمجتمعات البدائية المتخلفة (نموذج الاصطفاء التوراتي المستمر في أشكال علمانية لا دينية).

إنما نريد أن نخلص إليه هو أن مقولة «الغرب» لا تصلح إطارا لتصنيف وتمييز الفضاءات الإنسانية الحالية التي تتباين وتتمايز بحسب تقاليد ثقافية وتاريخية مغايرة لهذا المفهوم الأيديولوجي الهش. وفي الوقت الذي تميل الدراسات العلمية الجادة إلى استكناه المسار الثقافي ـ التاريخي الأوروبي في سياقه الشرقي ـ المتوسطي الذي لا ينفصل عنه، يتعين التنبه من الوجهة الاستراتيجية إلى حدود وثغرات مفهوم الغرب الجيوسياسي الذي لا يعود لأكثر من خمسين سنة، وقد دخل لحظة تصدع خطير كما كشفت الأحداث الأخيرة.

[email protected]