إنها حرب الصورة وزمانها!

TT

كثر الحديث في السنوات الأخيرة في موضوع البحث في كيفية تصحيح صورة العربي المسلم في الثقافة الغربية والإعلام المعاصر، وقد تزايد الاهتمام بالموضوع بمناسبة أحداث 11 سبتمبر الشهيرة والتداعيات التي تلتها في العالم الإسلامي وفي العالم، حيث عقدت الندوات واللقاءات للتفكير في الوسائل والسبل المساعدة على بناء الصور الأكثر تاريخية والأكثر مطابقة للصيرورة التاريخية المعقدة التي تعرفها المجتمعات العربية في بدايات الألفية الثالثة. ننطق ونحن نروم بناء وجهة نظر في هذا الموضوع من مقدمتين اثنتين:

نعتبر في الأولى منهما أن تصحيح الصور المشوهة السائدة في الإعلام والثقافة الغربية عن العروبة والإسلام التاريخيين، ليست مسألة بسيطة، ولا تنفع فيها ردود الفعل المرتبطة بمناسبات وأحداث بعينها. ذلك أن حرب الصور المشوه منها والقاتم والمطابق تعد اليوم كما هو معروف جزءا من الحرب الشاملة، القائمة بيننا وبين الآخرين في العالم، لقد تميز عصرنا باستخدامه في أزمنة حروبه لمختلف الوسائل التي تمكن من مغالبة العدو والانتصار عليه، وحرب الصور الواقعية والمتخيلة والمركبة بحيل التصوير الجديدة تعد اليوم جزءا من هذه الوسائل.

والمقدمة الثانية أن معركة التصحيح كما نتصورها، تعتبر في المنطلق والأساس معركة ذاتية، معركة تخصنا أولا وتخص أوضاعنا العامة في علاقاتنا بالعالم، وتترك آثارها لاحقا في أنماط الصور التي يرسمها الآخرون لنا.

لا يعني هذا أننا نقلل من أهمية الفاعل الخارجي، الذي نختزله عادة في الصيغة العامة، صيغة الآخر ونرادفه بالغرب والصهيونية العالمية والولايات المتحدة الاميركية. فنحن نعتقد أن صراعنا المعاصر مع الغرب لم يتوقف، وأنه في أصوله البعيدة صراع تاريخي تحركه المصالح والأهداف التاريخية المحددة والمرسومة سلفا وتعزز مساراته ترسانة الايديولوجيا وقواعد الحرب النفسية، لكننا نريد التأكيد على أهمية معركتنا الذاتية مع مظاهر تأخرنا التاريخي العام، معركة تصالحنا مع العالم الذي يؤطر ويشرط وجودنا القومي والإقليمي والعالمي. ولأن الصراع الدائر في العالم اليوم يعمل على توظيف آليات متعددة، حيث يستعمل المتخاصمون حيلا عديدة للتغلب على بعضهم البعض، فقد تم تعميق نمط الحرب بالصور النمطية المرسخة لمسافات التباعد والتجافي، وساهمت وسائل الإعلام الجديدة في منح هذه المواقف أبعادا جديدة عمقت درجات الاختلاف ومنحتها صورا وأبعادا لا حدود لها. لنشخص في صورة أمثلة محددة طبيعة المعركة التي لم نخض بعد بجدية وجذرية تامة مع أنفسنا، مع حاضرنا ومع تاريخنا، يتعلق الأمر بمعركة استكمال عملية استيعاب منطق العصر، استيعاب دينامية الحداثة والتحديث، فقد يكسبنا هذا المنطق في حال إنجاز مهمة الاستيعاب التاريخي المذكور كفاءة الحوار الندي والمتكافئ مع الآخرين. وهذا الاستكمال لن يحصل إلا بفضل تدعيم الجهود التي ما فتئ الفكر العربي يبذلها وهو يجتهد في سبيل استنبات وتوطين المعرفة العصرية وتعميمها في فضاءات المجتمع ومظاهره المختلفة. أما المثال الثاني فيمكن تشخيصه في استمرار نظرتنا المحافظة لتراثنا وذاتنا التاريخية، فقد تحول هذا الأمر في العقود الأخيرة من القرن الماضي إلى جائحة تراثية شاملة أعادتنا إلى لغة عتيقة في الثقافة والمجتمع، لغة كنا نعتقد أن الزمن عفى عنها، فإذا بها تعود لترسم لذاتنا التاريخية ولتراثنا صورا لا علاقة لها بالتاريخ. وإذا كنا نعرف أن المخزون التراثي الرمزي أصبح يوظف بشكل مخيف في معارك حاضرنا داخل مجتمعاتنا وخارجها وأثناء مواجهتنا للآخرين، حيث انتعشت في السنوات الأخيرة محاولات استخدامه في معاركنا السياسية وداخل اغلب الساحات العربية، رغم مظاهر الهدنة الحاصلة هنا وهناك، فإن العمل في هذه الجبهة بالذات يتطلب إنجاز قراءات عصرية جديدة لتراثنا ولذاتنا التاريخية المتحولة بفعل متغيرات الزمان.

لا ينبغي أن يترك المكون التراثي حكرا على قراءات غير مجتهدة، بل ينبغي إطلاق مشاريع في البحث، قادرة على إنجاز فهم يستجيب لأسئلة عصرنا ومقتضيات تجاوبنا الايجابي مع ما يجري في العالم. إن التراث الإسلامي، مثله في ذلك مثل مختلف منتوجات البشر في التاريخ حمال أوجه لا حصر لها، وهو خزان قابل لأكثر من صيغة من صيغ الاستثمار الخلاق والمبدع، أما أن يواصل فهم نصي مغلق للظواهر التراثية حضوره وهيمنته على العقول والضمائر في مجتمعنا، فإن في ذلك ما يبرز جوانب من الصور التي نصنعها لأنفسنا بأنفسنا، ويرسمها الآخرون لنا في زمن لاحق استنادا إلى منتوج الفكر المنتشر بيننا. وعندما نقول بناء على ما سبق إن منطلق معركتنا ينبغي أن يكون هو الذات، إصلاح ذاتنا التاريخية، تصحيح صورة الذات عن ذاتها، بالعمل من اجل مزيد من التصالح مع أنفسنا ومع قيم العالم الذي ننتمي إليه، لنتمكن من المشاركة في إبداع التاريخ المعاصر، بالاشتراك مع كل من تعنيهم صناعة هذا التاريخ، فإن هذا الأمر لا يعني أن الآخر بريء مما نحن فيه وعليه، فمن المعلوم أن تاريخنا المعاصر وان حاضرنا ومستقبلنا لا يمكن أن يفهما بصورة تاريخية دون أخذ العوامل الخارجية بعين الاعتبار، لكننا نعتقد انه بعد معارك الاستقلال مع الآخرين الذين استعمرونا وما فتئوا يتربصون بجغرافيتنا ومواردنا ووجودنا التاريخي، فإن معارك نهوضنا واستكمالنا لعمليات التحرير ترتبط اشد الارتباط بذاتنا. وذلك بالعمل على حل الإشكاليات العديدة الناشئة في محيطنا التاريخي، نقصد بذلك إشكالات التحديث والاجتهاد والابداع وبناء التوافقات السياسية الإرادية التي نفترض أنها تسهل عمليات إصلاح وتطوير مجتمعاتنا في اتجاه إعادة بناء المواطن العربي والدولة العربية، والمستقبل العربي المنشود. وفي موضوع دور العامل أو العوامل الخارجية، نحن نفترض أن فهما تاريخيا لدور الآخرين في تشويه صورنا ونوعية حضورنا التاريخي بالأمس واليوم، يقتضي عدم نسيان أو تناسي منطق الصراع في التاريخ. أقصد بذلك انه يجب أن نتخلص في هذا الموضوع بالذات من أوهام اللغة الاخلاقية والمثالية، ومن لغات وتمجيد الذات، والاعتزاز بتاريخ تنافسنا في بنائه تصورات لا نتفق معها تماما، تصورات تؤطره وتحوله الى نماذج فكرية متخيلة، لا علاقة لها بالتاريخ الحي كما تشكل وما فتئ يتشكل في دائرة الزمان. فهل نعرف أنفسنا؟ وهل نعرف ما نريد؟ وهل اتفقنا على تصورات محددة مناسبة لتاريخنا وحاضرنا؟ وهل يمكن أن نتحدث مع الآخرين لغة التاريخ والمصلحة والصراع اذا ما اقتضى الامر ذلك؟ عندما نجيب عن مثل هذه الاسئلة، ونصفي حساباتنا مع مواطن الخلل في ذواتنا اولا، فإننا نستطيع أن نبني التصورات والمواقف التي تكفل لاختياراتنا التاريخية في النهضة والتقدم ما يسمح لها بالتحقق على ارض الواقع، ونكون قد بدأنا نعمل على زحزحة الصور النمطية التي تسجن ذواتنا في قوالب لا تعبر تماما عن مختلف مظاهر تحولنا الذاتي في التاريخ.