خواطر 23 يوليو «نهاية» 5 يونيو؟

TT

مشكلة 23 يوليو انها سرعان ما تحولت الى رجل واحد. لكن هذا ما يحدث دائما عندما يكون الرجل في حجم عبد الناصر وفي جاذبيته. فقد خرج «الضباط الأحرار» او اخرجوا الواحد بعد الآخر. بدءا بالذين كان لهم شيء من البريق، مثل صلاح سالم. وبقي شديدو الولاء او شديدو الذوبان في ظل الريس. وكان مثال هؤلاء انور السادات، الذي سوف يصانع في الظل، مثلما الطرق التقليدية في البقائية. وما ان يصبح هو في كرسي الريس حتى يقلب رجل الظل، الجميع. وكل شيء. ولا يعدد اخطاء عبد الناصر، كما فعل خروشوف في ستالين، لكنه سوف يمحو جميع ملامحه الاشتراكية في الداخل. وسوف يرسل اليساريين الى الاقامة الجبرية والنسيان. وفي العالم العربي سوف يصالح جميع خصوم القاهرة وهو يرفع يديه مرددا: الله يرحمو! ثم سوف يربح في السويس الحرب العسكرية التي لم يربحها عبد الناصر. وبعدها سوف يفاجئ العالم بالرحلة الى القدس.

حافظ عبد الناصر على توازن القوى والعلاقة الشخصية مع رجل واحد من رفاق الأمس، عبد الحكيم عامر. وحتى هذه العلاقة انتهت على نحو درامي صباح 5 حزيران (يونيو) 1967. وخيل الى عبد الناصر ان جيش عامر سوف يرتد عليه. وان الناس سوف ترتد على الجيش. وان مصر سوف تسقط في الحرب الأهلية. ولذلك كانت استقالة التاسع من حزيران يونيو. تلك الضربة التي ابكت العالم العربي وقضت على قوة عامر في الجيش وابقت زعامة مصر في يد رجل 23 يوليو. لكن المرء يتوقف قليلا هنا ليسأل: ألم ينته 23 يوليو، في صيغته الأولى، صيغته الكاسحة الأولى، صباح ذلك النهار البائس؟ ألم يحطم 5 حزيران جمال عبد الناصر، الرجل الاكثر شعبية ونفوذا في الناس منذ الفتح؟ ماذا بقي من عبد الناصر بعدما رأى حلم الفالوجة في فلسطين يتهاوى في سيناء؟

عندما ننظر الآن، بعد كل هذه السنين، الى الوراء، نجد ان عبد الناصر بالغ في تعظيم شأن الهزيمة، تماما كما بالغ اعداؤه في تصويرها. وكانت اوروبا لا تزال آنذاك مأخوذة بالدعاية الاسرائيلية مع اميركا. ولذلك بدت الهزيمة عارا على العرب وليست معركة عسكرية في الحقيقة لم تقع. لكن سخافة ثقافة التهريج واسقاط الطائرات بالعشرات في الاذاعة وجعل الكذب القصير بديلا للحقيقة الآتية، والاعتقاد بأن الجماهير عربات تجرها حمير، كل ذلك هو الذي زاد في حجم الهزيمة وفي مرارتها وفي فظاظتها. ولولا قبح المايكروفونات لتلقى العرب (والعالم) مسألة الخسارة كما حدث في مئات الخسائر المماثلة في التاريخ. الهزيمة الكبرى في 5 يونيو ليس المفاجأة الصاعقة التي ربحها الاسرائيليون، بل الشماتة الدولية التي سببها هبل الصراخ الفاضي. ذلك اليوم نادى الملك فيصل بن عبد العزيز، الذي جعله عبد الناصر ألد خصومه، نادى على وزير اعلامه جميل الحجيلان وقال له: مصر في ازمة ونحن معها. لا كلمة شماتة واحدة على الهواء او في الصحف.

زاد في السوء المحيق بسمعة مصر، غموض الدور السوفياتي كله في مسألة الحرب. كما زاد فيه ادعاء السوفيات ان العرب بهدلوا سلاحهم. وهو سلاح لم يثبت تفوقه في أي مكان. فالذي انتصر في ستالينغراد ولينينغراد وحتى في برلين، كانت ارادة الشعب الروسي الهائلة وتضحياته التي لا مثيل لها وهبوبه ضد الرعب من الفاشية.

تلاقت عناصر كثيرة ومؤامرات كثيرة على تجربة عبد الناصر. ولكن اسوأ ما حدث لها، كان اخراج هذه التجربة الى العالم العربي وافريقيا. ومن التكرار القول ان الذهاب الى اليمن كان مغامرة لا تزال مصر تدفع ثمنها حتى اليوم. وقد لحقت عطوب كثيرة بالثورة جراء الحسابات العاجلة. وقد بالغ عبد الناصر بالثقة في الجماهير التي شغفت به، غير مدرك ان العالم اكثر تعقيدا والسياسة الدولية اكثر فظاظة.

الى اللقاء.