قرار لاهاي: محطة سياسية هامة أم رقم جديد لموسوعة غينيس؟

TT

هبط قرار محكمة العدل الدولية على الفلسطينيين كهدية من السماء، لقد جاء في وقته.. لمن يريد مواصلة النضال، وكذلك لمن يحسن استغلال الإنجازات الكبرى للاحتفال، وتزويد موسوعة غينيس برقم قياسي جديد لعدد القرارات الدولية بشأن القضية الفلسطينية..

ومع أن القرار يستحق الاحتفاء به والزهو بالجهود الجدية التي مهدت له.. وكانت السبب الرئيس في الحصول عليه، إلا أن الاكتفاء بالمدلولات السطحية، واتخاذ القرار كقرينة على أن كل ما كنا نفعله قبل صدوره كان صحيحا وحكيما، سوف يعيدنا حتما إلى تلك الدوامة، أي إلى تلك الطريقة المألوفة عنا في تحقيق الانتصارات وتبديد مردوداتها في ذات الوقت. لذا يجدر بنا، ومن وراء ظهر الاحتفالات الصاخبة، أن ندرس بموضوعية مغزى القرار الدولي، والحدود المتاحة لاستخدامه والإفادة منه، وذلك من خلال قراءة هادئة لكيفية تعامل قوى التأثير معه، وترتيبها من حيث الأهمية الفعلية على النحو التالي:

أولا: إسرائيل

من السذاجة اعتماد المقولة الدارجة بان إسرائيل لا تكترث لقرار من هذا النوع، وبالتالي سوف تلقيه كغيره وراء ظهرها، ذلك أن متابعة دقيقة لردود الفعل الإسرائيلية على القرار تظهر درجة عالية من الشعور بفداحة الكارثة والارتباك في التعاطي معها وضعف الإمكانيات الفعلية لمعالجة آثارها.

وحين يقول ناحوم برنييع، في «يديعوت احرونوت»، إن إسرائيل بدت أمام العالم كدولة «مجذومة»، فهذا المصطلح، في سياق تحليله المرير لما حدث، ليس انفعاليا أو مغاليا، بل انه شديد الدقة في تجسيد المخاوف الإسرائيلية من تفاقم العزلة الدولية على كيان يتباهى بصورته، ويتباهى بكونه واحة للديمقراطية والقيم السامية في الشرق الأوسط.

المخاوف الإسرائيلية التي وصلت إلى هذا الحد بدأت معالجتها على النحو التالي:

أولا: دعوة الإدارة الأميركية إلى تفعيل جهودها لتطويق ردود الفعل الدولية، والتعهد بمنع صدور قرار من مجلس الأمن يتبنى قرار المحكمة الدولية.

ثانيا: تضخيم قرار محكمة العدل العليا الإسرائيلية، وتحويله إلى خندق دفاعي وهجومي في ذات الوقت، به تحمى فكرة الجدار وتبررها، ومنه تطلق النار على القرار الدولي وتفرغه من امكانات تأثيره.

ثالثا: إغراق المجتمع الدولي بوعود مطمئنة إلى أن تعديلات حتمية ستدخل على المسار الحالي للجدار، بحيث لا تلحق الضرر بمصالح الفلسطينيين، إلا في حالات استثنائية يقررها ضابط من جيش الدفاع، وفي حالة كهذه لا ضمانة على الإطلاق من أن تكون الحالة الاستثنائية هي القاعدة كالعادة.

رابعا: الشروع في مفاوضات داخلية لتغيير صيغة التحالف الحكومي بضم حزب العمل وتكليف «الماكيير»، شيمعون بيريس، بإعداد المساحيق الضرورية لتجميل وجه إسرائيل بعد كل ما حدث.

وبين ثنايا هذا التوجه، الذي بدأ تنفيذه بالفعل، سيبذل جهد كبير لإقناع الفلسطينيين وحلفائهم بحقيقة أن القرارات ذات الطابع المعنوي، حتى لو صدرت عن الجمعية العامة، تصلح لتحسين الشروط تحت سقف الحل الأميركي ولا تصلح حتما للتطبيق.

ثانيا:

الأميركيون

لسوء حظ الإدارة الأميركية أن قرار المحكمة الدولية جاء في أوج الحملة الانتخابية، مما يدفعها، حتما، إلى اتخاذ مواقف مختلفة عن المواقف التي اتخذتها عند البدء بالعمل في الجدار. ولو استعدنا من الذاكرة تسلسل الموقف الأميركي وتعبيراته، لوجدنا أن أكثر العبارات تنديدا وتحذيرا من خطر الجدار صدرت عن واشنطن. ونستذكر في هذا المجال مصطلح الأفعى الذي استخدمه الرئيس بوش، شخصيا، في وصف مساره، ومدى تهديده الجدي لفكرة الدولة الفلسطينية التي وعد بإنجازها في العام ألفين وخمسة.

لقد تغيرت اللغة والسياسات على نحو غريب. إذ أن التنظير للأهمية الأمنية للجدار يصدر بكثافة شديدة عن واشنطن، والتحذير من مغبة المضي قدما في إثارة موضوعه داخل المؤسسات الدولية يصدر من واشنطن كذلك. وهذه الازدواجية، وبكل تعبيراتها السياسية والإعلامية، لا بد وان تلحق أذى بالغاً بالمصداقية الأميركية. إذ أن ما اضطرت أميركا لرفضه ليس قرارا صادرا عن محكمة عربية أو إسلامية متهمة سلفا بالانحياز، انه صادر عن محكمة العدل الدولية، أي عن أعلى هيئة قضائية في عالمنا!

لقد فرض الجدار معركة كانت أميركا في غنى عن التورط بها. وجرجر الدولة العظمى إلى مواقع لم تكن تريدها. فمن الألف إلى الياء تضطر أميركا إلى دفع ثمن يومي بدأ بإظهار ضعف تأثيرها الفعلي حين رفضته. وفي ذات الوقت، ضعف ذودها عن القيم الدولية التي تبشر بها حين أيدته وتفهمته.

ثم أن أميركا المهتمة بتحسين صورتها في العالمين العربي والإسلامي، وكذلك في أوروبا وباقي دول العالم، لن تكون سعيدة حين تدمن استخدام حق النقض الفيتو بهذا القدر من الكثافة، مما حول مجلس الأمن إلى معرض دائم لاختلاف أميركا مع دول العالم. وهذا يلحق افدح الأذى المعنوي بدولة عظمى تتطلع إلى قيادة الكون، وتطرح معايير أخلاقية سامية لعصر دولي جديد.

غير أن أميركا لم تضع وقتا في العمل على وقف التداعيات الخطرة لقرار المحكمة الدولية، فأوفدت الثنائي الشهير، هادلي واليوت، لبحث الأمر ميدانيا مع إسرائيل. وقد يضطر الثنائي إلى الضغط على حكومة شارون، كي تقدم بعض هدايا الترضية، والتي لن تبلغ مستوى وقف العمل بالجدار، وإنما اقل من ذلك بكثير.

ثالثا: الاتحاد الأوروبي

رغم التظاهر بعدم الحماسة لفكرة عرض قضية الجدار على المحكمة الدولية في لاهاي، مجاملة لإسرائيل، ومسايرة لأميركا، إلا أن رئاسة الاتحاد الأوروبي ـ الهولندية، أرسلت بعض الإشارات، ومفادها محاولة الاستفادة من المأزق المعنوي الذي تورطت فيه الحكومة الإسرائيلية، بدعوة هذه الحكومة إلى التعاون مع الاتحاد سياسيا، لدرجة التلويح بربط المساعدات الأوروبية لإسرائيل بمدى تعاون الأخيرة مع الجهود السياسية الأوروبية. ولقد استخدم رئيس الاتحاد الأوروبي مصطلح رقصة التانغو، التي تحتاج إلى شريكين، ودعا شارون لان يرقص قليلا مع أوروبا.

أخيرا، لا بد من كلمة عن الفلسطينيين، الذين يواصلون الاحتفاء بالنصر، وهم منطقيون بذلك. فلقد قاموا بعمل نوعي، وهم مثخنون بالجراح ومنهكون من شدة التعب، ليحصلوا على شهادة جدارة كشريك، ليس بالوراثة، وإنما بالوجود المؤثر على الأرض. لذا، فان ما يجعل من هذا الإنجاز النوعي حقيقة سياسية، يمكن البناء عليها وجني ثمار حقيقية منها، هو توفير الرافعة القوية القادرة على المتابعة والمواصلة. والأمر هنا، لا يتصل بالخطط الدبلوماسية والإعلامية وإنما بتمتين البناء الداخلي الفلسطيني، على نحو يستطيع به مواصلة الرحلة الشاقة، والإفادة من الرياح المواتية. فان حصل ذلك فقرار المحكمة محطة عظيمة تفتح الطريق لمحطات مقبلة، وان لم يحصل فإن موسوعة غينيس جاهزة لاستقبال أرقام قياسية جديدة.