هل يحكم الرئيس بشار الأسد سورية؟!

TT

منذ أربع سنوات تتردد في بعض الأروقة السياسية ووسائل الإعلام مقولات تدور في الفلك نفسه، وتتناول الرئيس السوري بشار الأسد بصورة خاصة بمقولات من نوع: (الرئيس السوري لا يحكم، لا يقدر على اتخاذ قرار الإصلاح).. (أجنحة الصقور التقليدية تمنعه من العمل).. (الحرس القديم يسيطر على القرار في سورية».. (الرئيس السوري بلا خبرة ويغامر كثيراً!).

راقبنا هذه المقولات التي كانت تصدر تارة عن أعضاء في الكونغرس التقينا بعضهم ورددوا على مسامعنا هذه الأسطوانة، وكانوا يبدون دهشة عارمة عندما نتحدث لهم عن طبيعة النظام السياسي في دمشق، والتي سنعرض توصيفنا لها في هذا المقام، وتارة أخرى نسمع نفس المقولات من سياسيين وباحثين إسرائيليين كان أبرزهم إيال زاسر، الذي كتب عشرات المقالات يحلل فيها وضعية النظام السياسي في سورية ومكانة الرئيس بطريقة بوليسية تأملية، إلى أن انتهى إلى كتاب لا يخرج عن السياق نفسه تحت عنوان: «ابن أبيه». ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه بصورة لافتة إلى تحليلات من كتاب في الخارج تنغِّم على النغم نفسه ويكررها آخرون، وذلك كله بخلاف ما نسمع من بعض الناس العاديين.

كانت هنالك عدة احتمالات لخلفيات الطرفين الأمريكي والإسرائيلي من تداول هذه التوصيفات لحكم الرئيس بشار الأسد وشخصه:

1 ـ انهم يعرفون أنها توصيفات ليست صحيحة، لكنهم يصّرون على تداولها، إما لدفع الرئيس السوري إلى أن يتحرك على الطريقة التي تناسبهم، أو أنهم يعممونها كصورة نمطية عنه لخلق مبررات لاحقة للقول إنه غير قادر على التغيير والإصلاح، وبالتالي فهم مضطرون للقدوم بأنفسهم لصنع ذلك على الطريقة العراقية، سواء إسرائيلياً (حيث هي الموكلة بالشأنين السوري واللبناني) أو أمريكياً إذا ما كان للمحافظين الجدد أن يكملوا ثورتهم المستمرة!!; وهي في صلب إيديولوجيتهم، ويورطوا واشنطن ـ مرة أخرى ـ في حرب عبثية تطيح بالاستقرار.

2 ـ انهم ـ فعلاً ـ يجهلون واقع سورية، وهم بالتالي يقرأون العناوين بطريقة إعادة إنتاج المقولات العامة في ما يسمى «الماكروسياسة» غير المقاربة للواقع، الأمر الذي يرسم واقعاً افتراضياً لا تتم عملية مقارنته بالواقع الحقيقي، ما يجعل القائلين به يعيشونه في ذواتهم ويعيدون إنتاجه (دورانياً) فيصبح حقيقة لهم فقط. ومن مخاطر هذه الصورة الزائفة أنها قد يبنى عليها ما هو لاحق ويخدم التصور الذي أوردناه في الاحتمال الأول سابق الذكر.

3 ـ ثالث الاحتمالات هو الاحتمال الذي يقول بأنه كلما حاولت السياسة السورية أن تتخذ لنفسها خطها المختلف الرافض للامتثال، كان على الرئيس الأسد أن يواجه تسويقاً لتلك التحليلات بهدف إشعاره بأن عدم الامتثال يساوي إضعافه!؟ نفس الأسئلة والتحليلات تتكرر، الأمر الذي يجعل المرء يغوص في عدد من التساؤلات منها:

1 ـ تراهم ألا يعرفون؟ (نقصد الدوائر الغربية والأمريكية؟)، أليس لديهم سفراء ومراكز استخبارات تزودهم بالمعلومات الحقيقية؟ والحقيقة أن الجواب عن هذا السؤال يكمن في أنني لم ألتق سفيراً عربياً أو أجنبياً في سورية إلا وسألني نفس الأسئلة، وأجاب عنها بنفس الإجابات، الأمر الذي ولّد في داخلي قناعة أنهم ـ على الأغلب ـ لا يعرفون!

2 ـ لماذا لم يعمد الرئيس الأسد إلى امتصاص هذه التصورات بإجراءات سريعة ودراماتيكية تؤكد مدى قوته؟ الإجابة عن هذا السؤال تحيلنا إلى حيرة أخرى على الضفة الثانية، وهي: ماذا يستوجب على الرئيس السوري أن يقوم به، بعد كل ما قام به، كي يرى من يجب عليه أن يرى أنه (القوي الوحيد؟) ثم لماذا يستوجب على الرئيس الأسد أن يكون فعله رد فعل وفقاً لإيقاع الآخرين؟ ثم لماذا عليه أن يفتح مدرسة لتعليم الذين لا يقدرون على التعلم؟!

3 ـ لمصلحة من تسويق صورة زائفة عن «الرئيس الضعيف» و«مراكز القوى المتحكمة» و«الحرس القديم» وانسداد آفاق الإصلاح بسبب كل ذلك؟ وماذا سيُبنى عليها في الداخل لمن يجهل، وفي الخارج لمن يعرف ويتجاهل أو لا يعرف؟! إن الأخطار أكبر من أن تترك الزمن كي يعلم من لم يتعلم، ما يجعل الضغط على سورية أكبر انطلاقاً من توهمٍ أنها بالصورة التي يتم تسويقها.

4 ـ هل يحق لنا أن نعكر على الرئيس الأسد صفوة سكينته وعدم اكتراثه بكل ما يقال طالما أنه يعرف أنه (الـ) (قوي) ويمارس ذلك ـ فعلياً ـ على الأرض؟ ثم هل حقيقة قوة الرئيس المتنسّك ـ مبكراً ـ ملكه وحده؟ أم إنها ملك للسوريين ولمستقبل سورية والمنطقة، بما يفسح لنا في المجال أن نقول ما يجب أن يُقال؟ وهو تقديرنا والدافع وراء هذا المقال.

وبين تأرجحنا، بين الحرص المفرط والتقدير بأن مخاطر هذه الصورة النمطية أكبر بكثير من أن تُترك لتجري على عواهنها، وبين ما يضاف من طبيعة مهنتي كأستاذ جامعي وكاتب إعلامي وسياسي وظيفته أن يضع الناس في صورة ما يراه، أقله لجهة التقاسم في المعلومات والتحليلات، كان لابد من التوجه لشرح طبيعة النظام السياسي في سورية.

في تأسيس أي دولة هنالك مراحل (موضوعية) تمرّ هذه الدولة فيها، أولها أن تحكم بقبضة قوية. وسورية في هذا السياق عندما بدأت فيها الدولة بالمعنى الحقيقي للكلمة كان لا بد للرئيس الراحل حافظ الأسد أن يبني فيها نظاماً قوياً كان فيه (القويّ) على مجموعة كان يحقنها من عندياته بالقوة، فظنت نفسها قوية. أي أن الحكم كان آنذاك يتمثل بصورة «القوي على مجموعة من أظناء القوة»، إذ لم يفت الرئيس الراحل أن عليه أن يحسم قضية (مراكز القوى) في نظام يريد أن يستمر، فكان النظام يبدو وكأنه محكوم برجل قويّ ومراكز للقوة، لكن حافظ الأسد كان بارعاً في تفريغ تلك القوى من محتوى القوة، فكانت قوية كلما ارتبطت بقوته، وكانت ضعيفة: فرادى أو مجتمعة... لا فرق.

لقد بنى الرئيس الراحل النظام السياسي في سورية بطريقة فريدة للغاية تجمعها أربع نظريات، وهي: البراغماتية، والميكيافيلية الحديثة، والوظيفة، والأداتية. وكان مزج حافظ الأسد بين هذه النظريات على مستوى الواقع العملي مدعاة للانتباه، أقله منّا نحن الذين نُدّرس ونتعايش مع الفكر والعمل السياسي معاً. وكان مثيراً للانتباه كيف وفّق بين ضرورات النظام القوي وضرورة تفريغ الذين يظنون أنفسهم أقوياء من محتوى القوة: ونقطة تأثيرها وشدتها واتجاهها ومنحاها. والمؤكد أن إزالة كل الأسماء التي كانت تتصور نفسها قوية ذات يوم، سواء بالتقادم، أو القضم بالتدريج، أو بالشطب، أو بالإحالة إلى التقاعد، أو بالترفيع إلى مواقع فضفاضة... كانت جزءاً لا يتجزأ من طبيعة النظام الذي يريد أن يبني دولة من لا شيء وفي ظل ظروف صعبة للغاية.

لم يكن لهذا النوع من الدولة أن يستمر لأن ـ طبيعة الأمور ـ ألا تستهلك طبيعة الدولة السابقة نفسها، وإلا لقضت على الدولة نفسها، لأنها تحتمل أن تكون في مرحلة تاريخية ولا تحتمل كل المراحل، أضف إلى أن الزمان اختلف وحاجات الدولة والشعب وطبيعة المرحلة الدولية تقتضي التحوّل، ولهذا بدأت نذر هذا التحول نهاية التسعينيات.

مع الرئيس بشار الأسد بدأت الدولة في سورية مرحلة جديدة من مراحل تطورها، أي مرحلة تعزيز دور الدولة والمؤسسات على حساب الأفراد، أو بكلمة واسعة نسبياً: تعزيز دولة القانون والمؤسسات، لأن المسألة ليست ـ عملياً ـ قراراً يتم تنفيذه بعد التوقيع، ولهذا كان لا بد أن تتم عملية مركبة في هذا الاتجاه:

1 ـ سبر إمكانيات القوى الاجتماعية والمؤسساتية على تقبل ودعم وأزر هذا التحول، ما استدعى مرحلة انتقالية يراها البعض قد طالت، وتزعجنا وقائعها البطيئة، وهذا توصيف للوضع، يحاول تناوله بعقل بارد، وليس تبريراً للوقائع المذكورة.

2 ـ فرض الرئيس لوقائع جديدة على الأرض بانتظار أن تثمر عن ذلك التحول المنشود، وهي وقائع قد تفسر على أنها بغياب للسطوة لدى بعض مسؤولي المؤسسات على أنها حالة ميوعة في القرار أو تنفيذه لدى بعض المؤسسات، مما استدعى لدى البعض سؤالاً ما فتىء يقارب المسألة بدهشة: من يحكم البلاد؟ وهو سؤال - للأسف ـ يتجاوز حدود سؤال هل يحكم الرئيس بشار الأسد سورية، إلى الحديث الذي يكاد يوصف مسألة من دون أن يدركها، وهي تتمثل باختصار على النحو التالي: عندما أراد الرئيس بشار الأسد أن يرسم دولة للقانون والمؤسسات، إكمالاً لمشروع الرئيس الراحل كان عليه تغييب (الشخصنة) وابتدأ بنفسه، فمنع طبع صوره أو إقامة احتفالات ومظاهر تجميلية دعائية شخصانية، ولم يسمح بصنع تمثال واحد له في أي مرفق عام طلباً للمداهنة. وعلى التوازي مع ذلك حجّم دور الأشخاص في الأجهزة، وحصر أداءهم في مسؤولياتهم، مما خلق صورة وهمية عن الضعف العام في الأجهزة والنظام.

هذا الضعف الظاهري هو ضعف صوريّ مرده تراجع صورة التسلط الشخصي للأفراد على رقاب الناس ومصائرهم، وهو على الرغم من أنه رسم صورة مختلفة عن الأجهزة، إلا أنه عملياً قوّاها، ولكن فقط في حدود اختصاصاتها، لأن القوة «المنتشرة» والتي لم يكن لها حدود، بلغت أحياناً كثيرة حدّ التسلط وقهر الناس، كلما انتشرت وتمادت قاربت الضعف، لأنها تضعف النظام أو الدولة، وتخلق شعوراً قهرياً لدى الناس، فتتباعد المسافة بين الدولة ومواطنيها، وفي هذا ذروة الضعف رغم القوة الظاهرة.

وهذا ما نقصده بالمرحلة الانتقالية إلى دولة القانون والمؤسسات، وهي مرحلة تغيرت فيها طبيعة النظام السياسي في سورية إلى نظام (الـ) (قوي) على مجموعة هي تروس في ماكينة الدولة، لكن رأس النظام القوي لم يصبح أقوى الضعفاء بل غدا القوي الوحيد الذي يشكل (مركز ثقل) النظام السائر نحو المؤسساتية ونقطة تقاطع كل الفعاليات التي لم تعد قوىً.

هي خطوة أولى تجاه تعزيز المؤسساتية. نعم، ويرافق هذه الخطوة صورة وهمية عن ضعف في النظام. وهذا صحيح وغير صحيح!

صحيح، لأن من اعتاد على أن يكون اقطاعياً في مزرعته لم يعد قادراً على التصرف بمفرده، فغابت حالة اتخاذ القرار فوق القانون لصالح التدريب على اتخاذ القرارات ضمن ماكينة الدولة، وهذا بحد ذاته يفسر في أحد جوانبه التعثر في الإصلاح، لأن القرار أصبح مؤسساتيا ً(أو هكذا يؤمل) في ظل غياب مؤسساتيين من ناحية، وإرث مؤسساتي من ناحية أخرى، فدخل الفعل في متاهة من عدم التعوَّد، وعدم وجود كوادر صاحبة قرار بالمعنى المؤسساتي والقانوني، وعلى التوازي ثمة هرم تعوّد على «الاستزلام»، وعلى التجاوز، وعلى عدم اتخاذ القرار. اليوم تتعثر الحركة ولكن بالتأكيد القطار على الطريق.

هل يرحمنا الزمن؟ سؤال يضغط علينا جميعاً، لكنه لا يجد إجابته في انفعالاتنا وإحساسنا بذواتنا (الفاعلة) والنقيّة والوطنية فحسب، إذ أنه يجد إجابته في توافر (التراكم) في الدولة ومؤسساتها والمؤسساتيين.

في هذه المرحلة الانتقالية تسود صورة نمطية، ووهمية أيضاً، عن تسلط الأجهزة والأفراد، هي من الماضي بالتأكيد لكنها تسير بقوة العطالة، ويستفيد منها بعض الأفراد في إيهام الآخرين بما يسمح بالتسلط أو النفوذ، أو حتى الابتزاز بأشكاله العديدة: النفسية والمالية... في وقت تتغير فيه آليات اتخاذ القرار أو تنفيذ القوانين.

في المراحل الانتقالية ترتج الصورة الساكنة التي تم التعوّد عليها، وهذا ما يجعل أية صورة حالية أو آتية إما مرفوضة أو موضع عدم فهم، أو سوء فهم أحياناً.

هذا على صعيد التلقيّ لدى إخواننا العرب، والسوريين خصوصاً. أما بخصوص المتلقين من الإسرائيليين أو الأمريكيين، فهدف هذا المقال ـ بصراحة ـ ينحصر في أمرين: الأول، أن يعرفوا، إن لم يكونوا يعرفون. والثاني، أن نلعب على المكشوف!

* كاتب سياسي واستاذ جامعي سوري