خواطر 23 يوليو ـ أين ذهب الرفاق؟

TT

كان لعبد الناصر ثلاثة رفاق من كبار التاريخيين: نهرو وشو آن لاي وتيتو. لم يخرج نهرو من الهند إلا لتحرير «غوا» من البرتغاليين المتهالكين المفلسين، كدولة استعمارية سابقة. ولم يمد شو آن لاي المساعدات الى آسيا الا عبر القوافل السرية. وبقيت هونغ كونغ ومكاو في مكانهما. ولم يمد تيتو يدا خارج اتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية الست الذي انهار بعد موته. عبد الناصر اراد العالم العربي كله اشتراكيا دفعة واحدة. وبدأ بمحاربة الملكية والرأسمالية في الخليج، يوم كانت كل دخول المنطقة لا تساوي مستوى حياة الباشاوات في الزمالك والمعادي. وخلط بحماسه كثيرا بين الاريستوقراطية الصناعية في مصر وبين «الامارات المتصالحة». وفي الوقت الذي كان عبد الناصر يفرض الحراسة على ثروات التجار المصريين والاجانب، كان المعتمد السياسي البريطاني في دبي (العام 1954) يكتب انه يستحيل الغاء قانون الغاء الرق. لانه كلما حاولت اسرة ان تحرر «عبدا»، عاد اليها بعد ايام طالبا «استعادته» لانه يريد ان يأكل!

كانت الصحف الناصرية تكتب يومها عن ضابط بريطاني رهيب في دبي يقف في وجه الحرية والتحرير وينكل بالاحرار والوطنيين وعندما ذهبت الى الامارات العام 1964 وجدت طرقات من الرمال وبيوتا من الرمال وبضعة مهاجرين من اليمن. لكن الاذاعة التي طاب لها ان تقرأ تعليقات المساء بصوت مسموع في الكون لم تكن تعرف شيئا عما تتحدث. وكانت تريد ان تطبق على بلدان بلا مدارس وبلا مستوصفات وبلا طبيب وبلا صيدلية، وما تقوله عن احياء الدقي وعن تصرفات كريم ثابت. وعن الاصلاح الزراعي، كانت تلك، مشكلة عبد الناصر الاساسية، كما يومئ اقرب الناس اليه مؤرخه الاول محمد حسنين هيكل: الآن وقد نجحت الثورة في مصر، ما هي الخطوة التالية! وللاسف الخطوة التالية شقت العالم العربي وخلطت بين الانقياء والوصوليين. واصبحت محاكم الاعدام باسم «الثورة» اكثر من منصات الخطابة، لكن خارج مصر، وانصرفت الناس الى صناعة الكلام والمواجهة والتقاتل والفرقة الكبرى. وليس من شك في ان عبد الناصر لم يكن يريد ذلك. وانه وقع اسير الحلم الذي تفتت في الطريق ورفض ان يصدق انه اصبح كابوساً. فجميع الذين تسلحوا به مشروعاً للتغيير تخلوا عنه واصبحوا في مواجهته. من عبد الكريم قاسم نموذجاً، الى علي صالح السعدي الذي سيطلق جملته المأثورة: اسحقوهم حتى العظم! وسوف يجد عبد الناصر ان الاحزاب الوحدوية لا تريد وحدته بل وحدتها. وذات مرة قال لديبلوماسي عربي كبير دخل عليه فيما كان اكرم الحوراني خارجاً من عنده: «تاخذ مليون جنيه وتقوللي اعمل ايه مع اكرم بيه». لا السياسي اخذ المليون ولا عبد الناصر عرف كيف يتعامل مع الرجل الذي ترك مجلدات من المذكرات، جاء فيها انه لم يُسمح له بالسفر على طائرة عبد الناصر الى موسكو الا بشنطة ثياب واحدة. وصغيرة الحجم! امضى الزعيم السوري اكرم الحوراني سنواته الاخيرة في بيروت، يلوم كل مخلوق مر في ذاكرته. ويحمل المسؤولية لجميع الاخرين. واصبح جمال عبد الناصر، ساحر الامة، رجلاً مثقلا باحمال الهزيمة وقصائد نزار واحمال اليمن والانفصال. وبدت الامة مشهدا من الرجال يتقاتلون ويتضاربون وينفصلون باسم الوحدة والقومية والحرية. وكان اكرم الحوراني رائد ثورات الفلاحين، لكنه اصبح في الميزان الناصري رجعياً ومشتبهاً في بورجوازيته واقطاعيته، فيما معارضوه التقليديون في سورية يقولون انه «خرّب البلاد» بسياساته.

اختلط الاصدقاء بالخصوم. والمعجبون بعد الناصر بالخائفين منه. والحالمون بالوحدة بالخائفين من الذوبان في هالته وشعبيته. واختلطت الاشياء عليه كذلك. ففي داخل مصر حاول ان يضرب الشيوعيين والاخوان المسلمين لكنه في المقابل لم يعط الدعم المعنوي الكافي لرجال التحديث مثل طه حسين وتوفيق الحكيم والعقاد. ظل وحيدا برغم حمامات الجماهير. وظلت الناصرية هي عبد الناصر. وظل «فلسفة الثورة» مجرد كتاب وضعه هيكل لانه كان لكل زعيم كتاب تلك الايام: من نهرو الى ماو.

الى اللقاء