رؤية من الزمن السيابي

TT

أذنب أن يقال لنا حقوق

أبى أصحابهن لها اغتصابا

لبدر شاكر السياب من قصائده الفراهيدية واحدة اسمها «مأساة الميناء» نشرها زميله في دار المعلمين عبد الجبار عاشور بعد وفاته، ثم ضمها ناجي علوش الى ديوان «أعاصير» في الجزء الثاني من الأعمال الكاملة وبيت القصيد فيها غيظ مكبوت ضد ابن لندن لأن ابن واشنطن لم يكن قد تجرأ بعد على الوصول بجحافله الى شط العرب:

حلال لابن لندن في حمانا

دم ابن الرافدين فلا عتابا

وجور ان نمد يدا إليه

وحق ان يمد لنا حرابا

وها هو ابن الرافدين اليوم يجد نفسه في الدائرة ذاتها يوم حدثت مأساة الميناء في زمن السياب، مع فارق بسيط لكنه جوهري، فيومها ما كانت الاجتهادات الوطنية تتشعب حول قداسة مقاومة الاحتلال ولا كان للحضور الخارجي والاصابع الاجنبية ذلك التأثير الفظيع على مصائر العراقيين.

اليوم ومع كثرة الاجتهادات والاصابع، بالكاد تجد رأيا مسموعا لابن الرافدين، فالأفغان الاجانب يحاضرون له في ما يجوز وما لا يجوز من وسائل المقاومة، والافغان العرب بلسان أبي مصعب وسياراته المفخخة يحددون شكل المقاومة واسلوبها، والايرانيون يقترحون حلولا للمسألة الكردية نيابة عنه.

ومن الجيران الأقربين والمتورطين الأبعدين يأتي الاتراك ليضعوا استراتيجية حماية الحدود من دون استشارته، والكوريون لينصحوه بشكل احلافه المستقبلية، وغدا اذا تم تنفيذ التهديد بالسائق الفلبيني سيحذو الفلبينيون حذوهم، فهذه الامم البعيدة التي أدخلت نفسها في صراع لا ناقة ولا جمل لها فيه، كل ما يهمها ان يرضى عنها ابن لندن وابن واشنطن. اما ابن الرافدين فآخر ما يتم التفكير بمصحلته ناهيك من استشارته.

وعلى الجبهة العربية حدث ولا حرج عن خبراء العراق وفلاسفته ومحلليه. فمعلق مصري يقترح على العراقيين اعادة صدام وأزلامه للحكم لانهم الوحيدون القادرون على حماية الأمن. وخبير سوري ينصحهم بالقوات الدولية المشتركة على غرار البوسنة. ومحلل اردني لا يجد لهم حلا الا بعودة الملكية واستقدام الشريف علي بن الاميرة بديعة. وكل هذا الهراء لا ياتي من غير العراقيين سرا ولا في اجتماعات سياسية بل على الهواء مباشرة في الفضائيات العربية التي ستقفل أبوابها بالتأكيد لو لاح في الأفق أي حل للمأساتين العراقية والفلسطينية.

في هكذا مناخ لا يبقى أمام ابن الرافدين الا ان يقول لكل هؤلاء الخبراء والمحللين والناصحين بأحلاف وانتدابات ومعاهدات، احملوا نصائحكم وخبرتكم وحلوا عني، فذاك عين ما صرخ به السياب في قصيدته:

فصيحي (بالحليف) إليك عني

فلا حلفا نريد ولا انتدابا

والعراق اليوم ـ كما أظن ـ كالعراق في الزمن السيابي يعطي الاولوية لاستقلالية قراره الوطني ويتطلع الى يوم تهدأ فيه هذه الخنفشاريات التي تتاجر بأحزان شعب لا يحتاج مع عراقة كفاحه الى من يدله على مصلحته الوطنية.