أجواء طفرة سياسية في تونس

TT

تعتبر الأشهر المقبلة في تاريخ السياسة التونسية فترة امتحان حقيقي لتحقيق نقلة نوعية على صعيد المنجز السياسي، إذ ينتظر بين شهري اغسطس وأكتوبر المقبلين انتعاش هذا المنجز من خلال إشباع بعض التوقعات التي تنتظرها مختلف القوى المكونة للمجتمع التونسي وخاصّة في مجال الحريات. فتونس مقبلة على حدثين مهمين، يتمثل الأول في افتتاح مركز الشراكة والديمقراطية الأمريكي بمقر سفارة الولايات المتحدة بتونس، ويتعلّق الثاني بالحدث الأكبر، أي الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي تأجل تاريخها في هذه السنة من شهر أبريل، كما جرت العادة، إلى شهر أكتوبر.

ومن يتأمّل الحدثين معا، سيلاحظ خيطا سميكا يربط بينهما، إذ أن الولايات المتحدة اختارت تونس مقرا لمركز الشراكة والديمقراطية، الذي تاقت إلى استضافته عدّة دول مغاربية ومشرقية، ولكن الولايات المتحدة اعتبرت تونس حسب معايير الحداثة الأكثر تمدنا. وبالتالي، من زاوية نظرية، فان تونس مطالبة بتأكيد إنجازاتها الحداثية من خلال نجاحها في التعاطي طبقا لمبادئ التمدن مع الحدث الثاني، أي الانتخابات الرئاسية والتشريعية.

وكما بات معلوما في تونس، سيتنافس الرئيس زين العابدين بن علي في هذه الانتخابات مع ثلاثة مرشحين وهم: السيد محمد بوشيحة الأمين العام لحركة الوحدة الشعبية ذات التوجهات الاشتراكية، والسيد منير الباجي الأمين العام لحزب ليبرالي اسمه الحزب الاجتماعي للتقدم. أما ثالث المرشحين فهو محمد الهادي الحلواني أستاذ جامعي ينتمي إلى حركة التجديد، أي الحزب الشيوعي التونسي سابقا. علما بأن المرشح الثالث لا علاقة له بأي هيكل رسمي غير حزبه بخلاف المرشحين الآخرين اللذين يتمتعان بعضوية البرلمان.

وبالاطلاع على وضع أحزاب المعارضة الثلاثة المرشحة للانتخابات الرئاسية والبرلمانية، نجد أنها أحزاب صغيرة الحجم والوزن وهو وصف محايد لها يعتمد التشخيص فقط. وأمام هذا الواقع الذي أقل ما يمكن أن يقال عنه هو انه واقع متواضع جدا، فإنه ليس سرا أو صعبا التكهن، بأن أمر الرئاسة محسوم لفائدة الرئيس بن علي، وذلك بسبب تواضع الفعل السياسي المعارض، ولأسباب أخرى ذات طابع موضوعي منها الطفرة الاقتصادية التي حصلت في عهده والمكاسب الاجتماعية الكثيرة التي حصلت معه، رغم عدم مواكبة هذه المكاسب المهمّة لما هو سياسي والذي يندرج في إطار الحريات، إذ توجد بعض المؤاخذات الجدية حول أداء الإعلام وحريّة التعبير وبعض التجاوزات في مجال حقوق الإنسان، وذلك على الأقل ما يردده خصومه وعناصر أخرى من النخب الثقافية والفكرية التي لم تمنعها استقلاليتها من أن يكون لها موقف نقدي يصب في جوهر دور المثقف.

ولا بد هنا من ملاحظة ان المعارضة شهدت انقساما على نفسها، إذ دعا البعض إلى مقاطعة الانتخابات الرئاسية والتشريعية لأنه حسب طرح هذا التيار، لا فائدة ترجى من المشاركة في خضم واقع لا يمكنه طرح بدائل والاتصال بالرأي العام والتعريف ببرامجه. في حين يرى الشق الثاني أن في الانسحاب عبثا، ذلك أنه قد سبق لها المشاركة في مناسبات كانت تعلم أنها لن تفوز، ومع ذلك رفعت الرهان وآمنت بضرورة تراكم الثقافة السياسية لدى الرأي العام في تونس. ورغم مؤاخذات هذا الشق الثاني الإيجابي على السلطة وحديثه عن عراقيل تضعها أمامه، فإنه قرر المشاركة مهما كانت الظروف. ولكن كيف تبدو آفاق المعارضة الوطنية التونسية في هذه الانتخابات القادمة «الكرونوماتر»؟

ولعله من الأهميّة الإشارة إلى القارئ العربي أن القانون الانتخابي التونسي ينص على منح المعارضة خمس مقاعد البرلمان وذلك مهما كانت النتيجة، إلا أن الاستمرار داخل إطار المحاصصة هذا قد يبقي دار «المحاصصة» على حالها.

نقول هذا الكلام رغم أن الأمل في تحقيق نتائج خارج إطار المحاصصة يعدّ في نظر أكثر المراقبين موضوعية صعبا للغاية. فالأحزاب السياسيّة المعارضة في تونس منهكة وضعيفة باعترافها هي، وتحمل السلطة جزءا من المسؤولية في ذلك. وإذا ما استندنا إلى لغة الأرقام وفصاحتها للتدليل على مدى ضعف الأحزاب المعارضة رغم عراقة بعضها، فإنه يوجد في البرلمان التونسي نواب لأحزاب المعارضة تحصلوا في الانتخابات التشريعية على 500 صوت فقط. أما غريمها الكبير والمهيمن على الساحة السياسية، التجمع الدستوري الديمقراطي، فهو يمتلك مشروعية تاريخية تجعله إلى جانب حزب المؤتمر الهندي من أقدم الأحزاب في العالم الثالث. كما ضمّ في نشأته التي يعود تاريخها إلى بداية القرن المنصرم أهمّ رموز الحركة الوطنية التي خاضت معركة الكفاح ضدّ المستعمر الفرنسي، وإضافة إلى كلّ هذا فإنه يمثّل حزب الاستقلال التونسي.

وحتى بعد انتهاء الحكم البورقيبي في نوفمبر 1987، فإنّ النظام البديل جعل منه حزب «التغيير» فأعاد إليه الدور وتحوّل اسمه من الحزب الاشتراكي الدستوري إلى التجمّع الدستوري الديمقراطي.

ومن المعطيات التي تجعل فوز التجمع الدستوري الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية والتشريعية شبه حتمي نذكر أنّ عدد المنخرطين فيه حسب مصادر التجمّع نفسه قد بلغ اكثر من مليوني منخرط تونسي. كما يمتلك 7000 شعبة منتشرة في المحافظات التونسية البالغ عددها 26 محافظة، اضافة الى القرى والمدن، وهو ما يجعل الحزب قادرا على التأطير والتعبئة ومراقبة المجتمع والتأثير وحتى الهيمنة.

ولهذه الأسباب التي تفيد إجمالا غياب التكافؤ المادي، فإن حظوظ المعارضة خارج إطار المحاصصة تبدو ضئيلة جدا، بل أنّ المشهد السياسي خلال الفترات السابقة لم يشهد ما يشير إلى مخاض يغير هذا الواقع السياسي وذلك لا على مستوى إدارة الدولة ولا على صعيد قدرات أحزاب المعارضة. وما زلنا نتابع التراشق القديم الجديد بين الطرفين: تشير المعارضة إلى أنّ القوانين التي تؤطر الحياة السياسية موجودة وقائمة إلا أنّها غير مفعّلة. ونشير هنا الى ان القانون التونسي ينصّ على أنّ كلّ حزب يدخل البرلمان يتمتع بمنحة التمويل وأسعار خاصّة في الورق والطباعة، علما بأنّ صحف المعارضة الموجودة الآن في تونس لا تتجاوز اثنتين: الأولى صحيفة «الموقف» التي يصدرها الحزب الديمقراطي التقدّمي، وهي جريدة لا تزيد صفحاتها عن اربع، وهي غير مدعومة ولا تعرف في طرحها الإعلامي خطوطا حمراء. وهناك صحيفة أخرى مدعومة ماديا معتدلة تابعة لحزب الوحدة الشعبية الموجود في البرلمان. بينما ترى النخبة الحاكمة في تونس أنه ليس من مهمتها إضعاف حزبها كي يتمكن المنافسون لها من الصعود. ولا شكّ في أنّ كلا الموقفين يثيران شهيّة النقاش والجدل. والأكيد أنّ الصيف الحالي وجزءا من الخريف المقبل سيشهدان حوارا وتبادلا للطروحات، وقد يكون مثل هذا الحوار هو أكثر ما ننتظره من الحدثين المنتظرين ما بين اغسطس وأكتوبر، إذ ربّما تمثل الحوارات الوطنية الجريئة والشجاعة مدونة عمل لخمس سنوات مقبلة من أجل تحقيق طفرة سياسية وتجاوز حالة الركود التي تصبح باستمرارها تراجعا مربكا.

بناء على ما تقدّم نلحظ أنّ الحزب الحاكم، صاحب الحظوظ الوافرة والمستفيضة الذي يتحرك ضمن ضمانات ملموسة للفوز في الانتخابات السياسية والتشريعية، يفرض عليه واقعه الوردي والمريح جملة من المسؤوليات والأدوار. ذلك أنّ فوزه المتأكّد يخلق عنده حالة ارتياح من المفروض أن تنتج تركيزا يتعلّق بواجب تحقيق الطفرة السياسيّة وعدم المبالغة في استعمال آليّات الهيمنة التي تقتل القوى الوطنيّة المعارضة، بل أنّه على عاتق التجمّع الدستوري الديمقراطي تلقى مسؤوليّة الدفاع عن الحريات والديمقراطية وتوسيع هامش الحريّة في وسائل الإعلام. وهنا يكمن جوهر التمدّن والتقدّم، أي في تجاوز مفهوم بورقيبة للدولة الذي اسبغ عليها نوعا من القدسية، وطحن الفرد والمجتمع أمامها، فتلك مرحلة كانت لها مقتضياتها وحققت ما ينتظر منها من الإنجازات الاجتماعية المهمّة، لذلك فإنّ العمل على تطوير المنجز السياسي المتعلّق بالحريّات وبالديمقراطية يعتبر المضمون السياسي الجوهري للنظام القائم، والذي منه يفترض أن يكتسب المشروعيّة. فهل تتحقّق الطفرة السياسيّة على غرار الطفرة الاقتصادية وغيرها؟ سؤال ربما تتضح الاجابة عنه قريبا.

[email protected]