شكوك وراء تفجير قضية دارفور وتدويلها

TT

الاستنفار العالمي لأجل قضية دارفور يثير العديد من الاسئلة المهمة، المتعلقة بحقيقة وأصل المشكلة، أو في طبيعة ومقاصد القوى التي تحركها، ولا أتردد في القول ابتداء بأن افتراض البراءة في ذلك الاستنفار الحاصل الآن أمر من السذاجة بمكان.

وقبل ان أشرح حيثيات ذلك الزعم ارجو الا يظن انني أهون من شأن ما يجري هناك ففي دارفور مأساة انسانية عاجلة واجتماعية عميقة، يتعين التعامل معها بأقصى درجة من المسؤولية وفي اسرع وقت، ولو ان الاستنفار العالمي حاصل لنصرة واغاثة كل المضطهدين والمسحوقين من ضحايا الصراعات في انحاء العالم، لما كان هناك مبرر للشك أو القلق، ولكن أن تتعدد الصراعات في أماكن شتى ويتساقط في ثناياها ومن جرائها مئات بل ألوف الضحايا، الذين هم في أمس الحاجة الى العودة والاغاثة والحماية، ثم يتم تجاهل ذلك كله، ويجري التركيز على دارفور بوجه أخص، فإن ذلك يثير أكثر من علامة استفهام وتعجب، من ثم فليس السؤال هو لماذا الاستنفار العالمي من اجل دارفور، بقدر ما انه لماذا الاستنفار لاجل دارفور وإهمال غيرها، لهذا فلسنا ندعو الى تقليل الاهتمام بالحاصل هناك، ولكننا ندعو الى توجيه اهتمام مماثل لملفات وقضايا مماثلة، ان لم تكن اشد تعقيدا واكثر جسامة من قضية دارفور.

ان احدا لم يهتم مثلا بالتقرير الذي اصدرته منظمة العفو الدولية عن اوضاع مسلمي الصين يوم 8/7 الحالي، والذي كشف النقاب عن اجواء القمع القاسية التي يتعرض لها اكثر من عشرة ملايين مسلم في تركستان الشرقية (سكان دارفور ستة ملايين) وهي المنطقة التي تحولت الى «ولاية» في غرب الصين عرفت باسم «سينكيانج»، فقد تحدث التقرير عن ان السلطات الصينية دأبت خلال السنوات الثلاث الاخيرة، بعد وقت قصير من بدء الولايات المتحدة ما ادعت بأنه حربها على الارهاب، على توجيه حملات قمعية قاسية ضد مسلمي سينكيانج، الذين يطالبون بحريتهم الدنيية وبالمزيد من مقومات الحكم الذاتي (البعض يحلم بالانفصال واقامة دولة مستقلة)، واشار الى انه خلال تلك الفترة، وبناء على ابحاث قامت بها المنظمة الدولية في كل من تركيا وقزاقستان وقرغيزستان، فإن السلطات الصينية احتجزت عشرات الآلاف في سينكيانج للتحقيق معهم، وان مئات بل ربما الافا وجهت اليهم الاتهامات، أو صدرت ضدهم احكام بالسجن بموجب القانون الجنائي، واضاف التقرير ان عددا كبيرا من المسلمين (الذين يعرفون عرقيا باسم الاويغور) صدرت ضدهم احكام بالاعدام بدعوى قيامهم بنشاطات انفصالية مزعومة وقد تعذر تحديد اعدادهم نظرا للتعتيم الشديد المفروض على تلك المحاكمات.

تقرير من هذا القبيل لم يحدث اي صدى حتى في وسائل الاعلام، في حين كان المسؤولون الدوليون يركضون نحو دارفور، في المقدمة منهم الامين العام للامم المتحدة كوفي انان، ووزيرا خارجيتي الولايات المتحدة والمانيا، كما كانت المشاورات مستمرة لإرسال قوات دولية الى هناك، ولتوقيع عقوبات على حكومة الخرطوم من جراء اتهامها بالتقصير في معالجة الموضوع.

مأساة مسلمي سينكيانج تعد امرا بسيطا اذا قورنت بالحاصل في فلسطين أو في بلاد الشيشان، وقد ذكرت ما حصل مع «الاويغور» لأن التقرير نشر وسط حملة الاستنفار العالمي من اجل دارفور، في تلك الاجواء ايضا واصلت اسرائيل افتراسها للفلسطينيين، من خلال الاجتياحات والاغتيالات وعمليات التدمير ونهب الاراضي، التي شملت قطاع غزة ونابلس وغيرها من مدن الضفة الغربية، وقبل ذلك تابع العالم التقارير البشعة التي نشرت عن ممارسات الجنود الروس في شيشينيا وجارتها انجوشيا.

هذه الممارسات قوبلت بالصمت المشهود أو بتحركات سياسية اتجهت صوب مناصرة القتلة وليس الضحايا (كما في الحالة الفلسطينية)، وظلت دارفور مستأثرة بالاهتمام الدولي والاقليمي، الامر الذي يؤكد الشك في براءة ذلك الاهتمام، ويوحي بأن في دوافعه اشياء اخرى غير الاعتبارات الانسانية.

يعزز ذلك الشك أمران، احدهما يتعلق بطبيعة المشكلة في دارفور، والثاني ينصب على هوية القوى التي عملت على اثارة الضجيج من حول تلك المشكلة.

ذلك ان منطقة دارفور ذات الولايات الثلاث التي تشكل موطنا لـ 85 قبيلة، اكبرها واقواها نفوذا قبيلة «زاغاوه» التي تضم خليطا من العرب والزنوج، كلهم مسلمون، ويعملون بين الزراعة والرعي، وبين تلك القبائل تراث من النزاعات التاريخية حول الموارد الطبيعية. وبسبب الحروب الاقليمية، خصوصا الحرب التشادية الليبية، انتشر السلاح بين افراد القبائل، خصوصا ان قبيلة «زغاوه» تتمدد في منطقة الحدود ولها وجود في داخل تشاد، علما بأن الرئيس التشادي الحالي ادريس ديبي ينتمي الى ذات القبيلة.

النزاع التقليدي حول موارد المياه ومناطق الرعي كانت له تجلياته السلبية في علاقة العرب ـ اكثرهم رعاة ـ مع الزنوج، الأمر الذي احدث مرارات تراكمت بمضي الوقت، وقد غذاها التخلف وانتشار الجهل، وأججها وجود السلاح في ايدي كثيرين، خصوصا ان هناك أطرافاً كان يهمها في السابق اثارة الاضطرابات في المنطقة لإرباك حكومة الخرطوم والضغط عليها (الحركة الانفصالية في الجنوب خاصة)، هذه العوامل في مجموعها هيأت الفرصة لظهور جماعات مسلحة مارست النهب والعدوان على قطعان الماشية التي تشكل الثروة الاهم في دارفور ولم يخل الامر من تصفية حسابات بين القبائل، ادت في احدى المرات الى قتل احد زعماء القبائل العربية في الطرف الشمالي لجبل «مرة» وهو ما استتبع سعيا من اهل القبيلة للاخذ بثأر شيخهم القتيل، والفعل كان له رد فعل وسع من نطاق الاشتباكات، وحين وجد العرب الذين يشكلون اقلية في الولاية انهم في الموقف الاضعف، شكلوا مجموعات مسلحة للدفاع عن انفسهم عرفت باسم «الجنجويد»، ويبدو ان حاكم الاقليم العربي الممثل لحكومة الخرطوم وجد ان الموقف خارج عن السيطرة، فدعم مجموعة «الجنجويد» وامدها بالسلاح، الامر الذي وسع من نطاق المواجهة، خصوصا ان مجموعات الزنوج المسلحة اعتبرت حكومة الخرطوم منحازة «للجنجويد»، ومن ثم اعتبروا ان صراعهم اصبح موجها ضدها، وهو ما عد تصعيدا ليس فقط للصراع المسلح، ولكن ايضا للمواجهة السياسية حيث تحول الصراع حول الموارد الطبيعية الى مطالب اقليمية اتهمت حكومة الخرطوم بالانحياز للعرب، وتعمد تهميش وافقار اقليم دارفور علما بأن موضوع التهميش ينسحب على السودان كله.

هكذا فبينما كان الصراع المسلح مستمرا على الارض، مع ما استصحبه من عمليات قتل ونهب ونزوح، فان قوى خارجية ذات مصلحة لعبت دورها في تصعيد المواجهة المسلحة، وعملت على تدويل المشكلة.

في التعريف بتلك القوى اقتبس هنا فقرات من مقال نشرته صحيفة «الرأي العام» السودانية في 14/7 للكاتب والأكاديمي الدكتور الطيب زين العابدين، وتحدث فيه عن اجتماع دعت اليه في واشنطن منظمة اليهود الاميركية العالمية لتنظيم حملة للتبرع لاهل دارفور ومناصرتهم، وبادر المركز اليهودي للاصلاحات الدينية الى تنظيم مظاهرة احتجاجية صاخبة امام السفارة السودانية في العاصمة الاميركية، وشارك في الحملة المخططة بعض الاسماء اللامعة التي تجذب الانتباه مثل القيادي اليهودي ايلاي ويزيل الحاصل على جائزة نوبل للسلام بحجة انه يريد تسليط الضوء على العنف في السودان تحت شعار «انا لا يمكن ان اكون منعزلا» وشاركته في الحملة والرأي روث ميسنجر رئيسة منظمة اليهود الاميركية التي صرحت بأنها تستطيع عن طريق هذه الحملة جمع اموال طائلة لاكثر من غرض (سيكون معظمها اغراضا يهودية صهيونية) خاصة وان مشكلة السودان اصبحت شأناً عالمياً، واعتذرت بأن الحملة قد تأخرت لاننا لم نفهم مشكلة غرب السودان الا اخيرا! وساهمت مجموعة يهود منطقة واشنطن بتنظيم ورشة عمل دينية لتتخذ مواقف احتجاجية ضد العنف المستشري في غرب السودان، وعلق الحاخام ديفيد سابرستين على احداث دارفور بقوله: عندما ترتكب اعمال ابادة عرقية ينبغي على اليهود ان يكونوا في مقدمة المحتجين لاننا سبق ان كنا ضحايا وشهودا لمثل تلك الاعمال، وقام جيري فاولر مدير لجنة الضمير اليهودي بزيارة معسكرات اللاجئين السودانيين في تشاد ثم كتب بعدها لجريدة «واشنطن بوست» يقول: لقد صدرت اشارات وتحذيرات مهمة قبيل محرقة راوندا ولكنها لم تحرك ساكنا، وها نحن نقول لا مرة اخرى. فهل سيتم تجاهل هذه التحذيرات المبكرة وافارقة دارفور يبادون! ولم يفسر مدير لجنة الضمير اليهودي لماذا لم يتحرك اللوبي الصهيوني في تلك المحرقة الافريقية التي ذهب ضحيتها 800 الف قتيل على مدى سنتين! واوقف متحف المحرقة اليهودي نشاطه اليومي لمدة نصف ساعة ليلفت الانظار الى احداث دارفور، وقامت مجموعة ائتلاف اليهودية (تضم 45 مجموعة) بانشاء مكتب خاص مهمته جمع التبرعات لدعم احتياجات اللاجئين السودانيين في تشاد بسبب العنف المنظم ضدهم والذي تشنه مجموعات عربية مسلمة مدعومة من قبل الحكومة.

علق الدكتور الطيب زين العابدين على هذه الحملة قائلا: هل يعقل ان اللوبي الصهيوني فجأة ادرك ما يعانيه الزغاوة والفور والمساليت في غرب السودان ومن ثم هب لنجدتهم؟ أم أن وراء الأكمة ما وراءها!.

لا نستبعد ان يكون صرف الانتباه عن الفظائع الاسرائيلية من بين اهداف الحملة، ومحاولة تقديم «اللوبي» الصهيوني في اميركا باعتباره نصيرا للمضطهدين والمستضعفين (غير الفلسطينيين بطبيعة الحال) ـ لكننا نرى في الافق اشارات اخرى، تصب في مجرى تفكيك السودان، الذي بدأ بجنوبه، ثم انعطف الى غربه (في دارفور) والكلام متوافر عن اضطرابات تتحرك الآن في شرق السودان، وهذا التفكيك اذا قدر له ان يتم فانه يحقق ثلاثة اهداف عند الحد الادنى هي: اغلاق بوابة العرب المطلقة على افريقيا ـ حرمان العرب من سلة الغذاء الواعدة هناك ـ اضعاف مصر اكبر دولة عربية ـ والتحكم في مياه النيل التي تمثل شريان الحياة بالنسبة لها.

إن السؤال الكبير الذي يطرح نفسه في مواجهة هذا المشهد هو: اين العالم العربي الذي يتعرض احد اقطاره للتمزق ويهدده الاندثار؟ واين مصر الشقيق العربي الاكبر الذي تستهدفه السهام في نهاية المطاف؟